ليس جديداً ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخراً، عن إشارات ومؤشرات على التحولات التي طالت الموقف الأمريكي من سوريا، خلال الفترة الأخيرة، وتتمثل في منح الأولوية لقتال "
داعش" و"جبهة النصرة" هناك على حساب موضوع الإطاحة بالرئيس الأسد، الذي لم تعد الإدارة الأمريكية ترى فيه مدخلاً أو مفتاحاً رئيساً للتوافق حول مستقبل سوريا.
التحول في الموقف الأمريكي مترجم، عملياً وواقعياً، عبر التحالف الدولي الراهن ضد تنظيم "داعش"، والتعاون غير المباشر مع القوى الشيعية المدعومة من إيران، ومنها "عصائب أهل الحق" التي كانت تعدها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، كما مع الحرس الثوري الإيراني، وحتى مع قوات النظام السوري التي تستفيد من الضربات التي توجهها طائرات التحالف ضد "داعش"، بالتوازي مع الطيران الحربي السوري.
ليس واضحاً بعد فيما إذا كانت ستنجح جهود الرئيس باراك أوباما في الوصول إلى صفقة مع إيران. لكن ما قدمه لها قبل الصفقة هو بحد ذاته أهم بكثير مما قد يتلوها من التحول في الموقف من نظام الأسد، والتعاون والتحالف ضد "داعش" لتعزيز النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، والتلويح بالفيتو ضد أي عقوبات من الكونغرس ضد إيران، وغض الطرف عن الحوثيين في اليمن. وربما كل ذلك مؤشر على ما قد ينتج عن الصفقة من تفاهمات إقليمية!
وليس جديداً، كذلك، أن نضيف إلى التقرير السابق أنّ النظام العربي الرسمي، الذي كان أكثر المندفعين للقضاء على الأسد، انقلب على نفسه أيضاً، وأصبح مستعداً لصفقة تبقي الأسد فترة من الوقت في السلطة، لكن بصلاحيات محدودة، وهو ما يرفضه الأسد نفسه. إذ تجاوز النظام الرسمي العربي اليوم قصة إسقاط الأسد ودعم المعارضة المسلحة في سوريا، وأصبح هاجسه الرئيسي وهمه الأول، قتال "داعش" والتناغم مع الأجندة الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
الجديد هو في التخلي الضمني، المتوقع، من النظام العربي والولايات المتحدة الأمريكية عن رؤيتهما الصحيحة التي تربط "داعش" بالمحنة التاريخية السُنّية في كل من العراق وسوريا ولبنان، ويمكن أن نضيف إليهم اليمن اليوم، إذ من الواضح أنّ مشروع تمكين السُنّة لمواجهة "داعش" في سوريا، وإدماجهم في النظام السياسي في العراق ومنحهم أفقاً سياسياً، كل ذلك الحديث تبخّر تماماً، وحلّت محله فكرة "
الصحوات العشائرية" مرّة أخرى.
في الأيام القليلة الماضية، أعلنت مصادر في الحكومة العراقية عن تأجيل مشروع تأسيس "الحرس الوطني" إلى العام التالي، لعدم وجود مخصصات مالية لذلك، وهي حجة مكشوفة للتخلص من هذه الفكرة الأمريكية-العربية، التي جاءت لإقناع السُنّة بالتخلي عن "داعش" ومواجهته، مع منحهم قدراً كبيراً من الحكم الذاتي والقوة الأمنية والعسكرية في المحافظات التي ينتشرون فيها.
بالطبع، مثل هذه الفكرة كارثية ومدمّرة، لأنّها تجسّد التقسيم الطائفي-الجغرافي في العراق؛ فالحرس الوطني هو المعادل السُنّي للقوات العسكرية العراقية، التي أصبح أغلبها يتكون من الطوائف الشيعية. لكن ما يعنينا في الموضوع هو أنّ هذه الفكرة يجري إجهاضها من الحكومة العراقية، كما جرى التباطؤ والتلكؤ سابقاً في دعم العشائر السُنّية لمواجهة "داعش"، لخشية الحكومة العراقية من إعطاء هذه العشائر أسلحة قد تذهب للتنظيم.
عاد المجتمع الدولي، والعرب معه، إلى المقاربة العسكرية والأمنية في مواجهة تنظيم "داعش"، والنظر إلى الأزمة السُنّية من منظور الصحوات العشائرية. ولا يتجاوز مشروع تدريب المعارضة السورية المعتدلة فكرة الصحوات نفسها الموجهة ضد التنظيم، وليس النظام السوري.
اختزال الأزمة السُنّية بمشروع الصحوات لن ينتج حلولاً حقيقية، حتى لو أضعف "داعش" مرحلياً أو مؤقتاً، مما يجعل من الأزمة الراهنة أمام مرحلة ممتدة مفتوحة وطويلة.
(نقلاً عن صحيفة الغد الأردنية)