مع بداية
السنة الجديدة يبقى السؤال الأهم عن سياسة الرئيس الأميركي باراك
أوباما تجاه المنطقة، وتحديداً العراق وسورية وإيران، لماذا قرر الرئيس مبكراً التخلي عن الثورة السورية؟ لماذا يبدو أكثر تفهماً للموقف
الإيراني، على رغم اعترافه بأن إيران تدعم الإرهاب؟ وما تفسير هاجسه بالجهاديين السنّة، واستعداده لقبول، أو التغاضي عن دور الجهاديين
الشيعة ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»؟ هل تدفع المنطقة ثمن الطموحات الشخصية للرئيس الأميركي؟ ربما كان المفتاح الأول للإجابة عن مثل هذه الأسئلة هو ما قاله أوباما قبيل حملته الانتخابية الأولى عام 2007 من أن طموحه «ليس أن أكون ضمن رؤساء تصبح أسماؤهم على قائمة رؤساء أميركا. طموحي أن أكون رئيساً يصنع شيئاً مختلفاً» («نيويوركر»، 27 كانون الثاني/ يناير 2014). من الواضح الآن أن الشيء الذي يرى أوباما أنه سيمكّنه من إضافة مختلفة في السياسة الخارجية الأميركية، هو الانفتاح على إيران، وفتح صفحة جديدة معها. هذا مضمون ما قاله لصحيفة «نيويورك تايمز» في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، أي قبل دخوله البيت الأبيض بعامين تقريباً. ويعلّق على ذلك الصحافي الأميركي ديفيد ريمنيك في حديثه المطول مع أوباما في العدد المشار إليه أعلاه من مجلة «نيويوركر»، فيقول إنه «إذا كانت السياسة الخارجية لجورج بوش الابن رد فعل على 11 أيلول/ سبتمبر، فالسياسة الخارجية لأوباما هي رد فعل على رد الفعل هذا».
اللافت أن الرئيس الأميركي، وفي حديث لمجلة «نيويوركر» يرى ما يراه آخرون من أن تحول سورية إلى حكومة مستقرة تمثل الشعب سيكون خسارة كبيرة لإيران. على رغم ذلك يرفض أوباما بشكل قاطع استخدام الورقة السورية في مفاوضاته النووية مع إيران. يخاف أن يكسر بذلك طموحه لأن يكون رئيساً مختلفاً في لحظة تبدو له مواتية. على العكس، فقراره النهائي هو ترك سورية بثورتها ودمائها وكوارثها التي لا تتوقف لإيران وروسيا. وهذا تحديداً ما يكرره في كل مناسبة، وهو أن الفكرة القائلة ان تسليح المعارضة السورية كان يمكن أن يغير موقفاً في سورية لمصلحة المعارضة والثورة هناك هي «نوع من الوهم». لذلك يعترف الرئيس بأن خيار دعم المعارضة السورية لم يكن يوماً من بين خياراته. لماذا هو نوع من الوهم؟ لأن الأمر بالنسبة إليه أن المعارضة "تتكون من أطباء سابقين ومزارعين وصيادلة وغيرهم، في مواجهة دولة مدججة بالسلاح، ومدعومة من دولتين كبيرتين، روسيا وإيران، و «حزب الله» بخبراته القتالية". منذ متى كان انتصار الثورات الشعبية يعتمد بشكل حصري على وجود مقاتلين محترفين؟ هنا يبدو كأن الرئيس ضحية تناقض المثقف في شخصيته، كأستاذ سابق للقانون، بدلاً من الاتساق مع منطق القائد السياسي برؤيته وحساباته أمام لحظة استراتيجية. الأرجح أن الحقيقة ليست هذه ولا تلك. ففي حديثه مع موقع «بلومبرغ»، سُئل الرئيس عن الموضوع نفسه، فقدم تبريراً آخر يختلف عن ذاك جذرياً، وهو أن التدخل الأميركي في سورية يعني مضاعفة دخول الولايات المتحدة في حروب متزامنة في العالم الإسلامي أكثر مما هي الآن. بعبارة أخرى، لا يريد أوباما -وفق قوله- إضافة سورية إلى أفغانستان والعراق وباكستان وقبلها ليبيا. («بلومبرغ»، 2 آذار/ مارس 2014).
حقيقة الأمر أن الرئيس يحاول تبرير قراره النهائي في الموضوع السوري، وأخذ الانتباه بعيداً من السبب الحقيقي خلفه، وهو أنه اتخذ هذا القرار في إطار خيار استقر عليه عندما كان مرشحاً للرئاسة، وقبل أن يصل إلى البيت الأبيض عام 2009. ما يريده ويطمح إليه هو تفاهم مع إيران على أساس وقف برنامجها النووي. ومن ثم، فإن دخوله المسرح السوري بقوة إلى جانب الثورة، مع حلفائه العرب والأوروبيين، سيفهم منه الإيرانيون أنه لا يريد التفاهم معهم، بل تجريدهم من سلاحهم النووي أولاً، ثم إنهاء دورهم الإقليمي بدعم الثورة وإسقاط حليفهم العربي الوحيد، بشار الأسد. واستنتج الرئيس، كما يبدو، أن القيادة الإيرانية في هذه الحال لن تتعاون معه في تحقيق طموحه السياسي.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فمراعاة أوباما لتطلعات إيران في سورية، وقراره بالتالي التضحية بالثورة السورية، ينطويان على إقرار غير معلن بعد بأن واشنطن ستعترف لإيران بدور في الشام قد لا يقل عن دورها في العراق، الذي حصلت عليه أيضاً من بوابة الاحتلال الأميركي لهذا البلد. وربما أن هذا تحديداً من بين ما ألمح إليه أوباما في حديثه لإذاعة «NPR» الأميركية الأسبوع الماضي عندما قال إن أمام إيران فرصة لأن تكون قوة إقليمية كبيرة في حال تم التوصل إلى اتفاق نووي نهائي معها. في هذا السياق، يصبح من المبكر بالنسبة الى أوباما أن يلتزم خطة استراتيجية واضحة لمحاربة «داعش». فهو أولاً لا يريد الإفصاح عن حقيقة أجندته قبل الاتفاق مع إيران. ثانياً لا يريد بطبيعة الحال الإعلان أن من بين أهداف التفاهم الذي يتطلع إليه مع إيران هو محاربة الجهاديين السنّة، وخصوصاً أن حلفاءه في المنطقة دول سنّية أيضاً. يبدو أن تركيا أدركت أن سياسة أوباما تصب في مصلحة الدور الإيراني على حسابها. لذلك اشترطت قبل مشاركتها في تحالف الحرب على «داعش» أن يكون الهدف التالي لهذه الحرب إسقاط النظام السوري، تفادياً لهذه النتيجة. الغريب أن الدول العربية المشاركة في هذا التحالف، وخصوصاً السعودية، لم تضع شروطاً مماثلة، ولم تحاول حتى الآن، كما يبدو، توظيف الموقف التركي لقطع الطريق أمام سياسة أوباما إعطاء دور «إقليمي كبير» لإيران سيكون على حسابها في نهاية المطاف.
السؤال الآن الذي ينبغي أن تتوقف أمامه هذه الدول العربية هو: لماذا اختار أوباما إعادة تأهيل الدور الإيراني؟ وأن خياره هذا هو الذي دفعه إلى التضحية بالثورة السورية وبالشعب السوري؟ هل لهذا علاقة بحقيقة أن ضعف الدول العربية، وهشاشة موقفها الذي كشفت عنه تداعيات الربيع العربي، وخصوصاً أمام إيران في سورية والعراق واليمن، هما السبب الأهم وراء تنامي دور الجهاديين السنّة؟
الضعف العربي أوجد فراغاً إقليمياً قابلاً للاستباحة. ومنه دخلت إيران إلى المنطقة، ثم دخل إليه الجهاديون السنّة لمواجهة التمدد الإيراني. هنا تبدو الدول العربية في حال عجز مضاعف أمام إيران من ناحية، وأمام الجهاديين من ناحية أخرى. من ناحيتها، استخدمت إيران ميليشيات (جهادية) شيعية عربية لمواجهة الميليشيات السنّية العربية. ما يثير انتباه الأميركيين في هذا المشهد أن إيران تملك سيطرة كاملة تقريباً على ميليشياتها الشيعية، في حين أن الدول العربية هدف للميليشيات السنّية والشيعية، وإيران أيضاً. هل استنتجت إدارة أوباما أن إيران هي الأقدر في هذه المرحلة على ضبط الوضع في المنطقة، وأن لا مناص من التفاهم معها لمواجهة الجهاديين السنّة؟ عملياً، هذا ما يحصل في الحرب على «داعش». ما ليس واضحاً في كل ذلك هو دور الدول العربية وموقعها في خريطة التفكير الأميركي هذه.
المدهش في كل ذلك، أن القوى الرئيسة التي تحرك المشهد الإقليمي الآن، هي ثلاث: الولايات المتحدة، وإيران، والجهاديون السنّة. حتى الآن تبدو أميركا وإيران في مواجهة هؤلاء الجهاديين. سيتساءل البعض حتماً، وباستغراب أيضاً: ماذا عن الدول العربية، وهي المكون الرئيس في المنطقة؟ ولماذا يتم استبعاد الجهاديين الشيعة، وهم لا يقلّون دموية وإرهاباً عن الجهاديين السنّة؟ ثم ماذا عن تركيا وهي دولة كبيرة، وتملك أكبر جيوش المنطقة وأقواها، واقتصادها هو الأكبر، والأكثر نمواً في المنطقة أيضاً؟ هل هي ليست محركة للأحداث أيضاً؟
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)