في محطات
الثورة المصرية المختلفة، وكلما ظن البعض، أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من النجاح، فإن التحرك يكون على قاعدة "من سبق أكل النبق"، حيث يتم التعامل مع الثورة على أنها القطار المتجه للصعيد، الذي يحتم الزحام، في المواسم والأعياد، أن يحجزوا مقاعد فيه قبل انطلاقه بساعات، وقبل وصوله للمحطة.. "من المخزن"!.
"الحجز من المخزن"، جربته مرة، في بداية عهدي بالقاهرة، وبناء على نصيحة خبير، قاد رهطاً منا معشر "المسافرين تحت التمرين"، الذين هم بلا خبرة، إذ مشينا بجوار قضبان السكك الحديدية، حتى وصلنا "المخزن"، وهناك سأل عن القطار الذي يخصنا، فلما تمت الإشارة إليه صعد بنا، وجلسنا لأكثر من ساعتين ننتظر تحركه، بينما هو ولأنه خبرة في السفر وصاحب سوابق، فقد نام. ولم يتحرك من "المخزن" حتى صار كامل العدد، ليكون على الواقفين "في المحطة" في انتظاره، أن يسافروا لساعات وقوفاً.
وفي مرحلة لاحقة، قامت هيئة السكك الحديدية، بفرض غرامات على "الحاجزين من المخزن"، لكثرة عددهم، وكانت الغرامة، لا تبدو شيئاً مذكوراً إذا ما قورنت بمهمة السفر جلوساً، بدلاً من أن ينتقل السفر من مجرد "قطعة من العذاب"، إلى العذاب كله.
هذه الواقعة التي كنت بطلها، جعلتني أعتقد من يومها، أن "الحجز من المخزن" أمر مرتبط بالمسافرين للوجه القبلي، وعندما قلت إن من حجزوا قطار الثورة من المخزن، بتشكيل الحكومة، ومؤسسات الدولة المصرية، يذكرونني بالمسافرين للصعيد، عبر القطارات العادية التي هي بلا حجز، علمت من صديق أن هذه طريقة يعرفها أيضاً المسافرون للوجه البحري!.
في تقديري أن يوم
25 يناير المقبل، لن يكون اليوم الحاسم في تاريخ ثورة أريد لها أن تحقق نجاحها بالتراكم، لكن ولأن معظم الذين خرجوا في 25 يناير 2011 مثلي لم يكونوا يعتقدون بقدرتهم على حمل حسني مبارك على التنحي، فهناك من يتصرف على طريقة: "وماذا لو جاءت الطوبة في المعطوبة" وتحقق النصر، وسقط الانقلاب؟.. إذن لا بد "من الحجز من المخزن". وقرأنا عن مناصب ثورية، يمنحها البعض لأنفسهم، ومنهم من أعلن أنه سينزل لمصر يوم 25 يناير ليقود الثورة بنفسه، ومنهم من كان متواضعاً فقال بأنه سيعمل وسط الثوار على الأرض، وقد اقترب الموعد المرتقب، بينما هم لا يزالون في الخارج، في انتظار أن يحقق الإخوان النصر، وأن يفتحوا الميادين، ويقدموا الشهداء، بينما أماكنهم في قطار الثورة محفوظة، لأنهم "حاجزون من المخزن"، وقبل وصول القطار لمحطة مصر، في القاهرة!.
في ليلة من ذات الليالي، نمت مبكراً، وعلى غير عادتي، لأستيقظ من نومي على حديث عن "مبادرة" خرجت فجأة، وشكلت الحكومة المصرية، ومنح أصحابها الحقائب الوزارية للبعض، والأقل حظاً تم منحهم مواقع المحافظين، ثم رؤساء لجان معينة، من أول لجنة لإقرار التعديلات على دستور 2012، إلى لجنة لوضع قوانين النقابات المهنية، كل نقابة على حدة، وأعتقد أن الموقع الوحيد الذي لا يزال شاغراً، ولم تنتبه له المبادرة، هو منصب رئيس مجلس إدارة "شركة مطاحن مصر العليا"!.
يقول قائلهم إن المبادرة وضعها خمسة عشر شخصا، وبالنظر لصور المحتفين بهذا الإنجاز التاريخي في مسيرة الثورة المصرية، وثورات المنطقة، هم قياماً وقعوداً، وبوجوههم وعلى جنوبهم، ستة أشخاص فقط لا غير، لكني، ولأني من الصعيد المعروف أهله بالكرم الحاتمي، يمكنني التجاوز عما رأيته، فربما كان من بين أصحاب المبادرة من لا يحبون الظهور، ولا تجذبهم أضواء الكاميرات، التي واضح أنها كانت محتشدة في هذه الليلة التاريخية، في انتظار ما ستسفر عنه المبادرة، فلنقل إن أعداد المشاركين فيها، ومن حجزوا للآخرين "من المخزن" هم (20) شخصاً، ليطرح هذا سؤالاً عن الأوزان الحقيقية في شارع الثورة، التي دفعت بالعشرين للتصرف بالنيابة عن الثوار؟!
مما قيل، أن بعض القوى الثورية، التي تملك "الخلطة السحرية لإسقاط الانقلاب" ترفض الخروج في يوم 25 يناير على قاعدة عودة الشرعية، وشعارات رابعة، فجرى ترغيبها والتودد إليها بحكومة يرأسها الدكتور أيمن نور، ويمنحها الدكتور محمد مرسي صلاحياته كرئيس للجمهورية، تحت وصاية أصحاب المبادرة!
ومما سيقال أيضاً أن رفض الإخوان للمبادرة، وإصرارهم على عودة محمد مرسي، وإصرارهم كذلك على رفع شعارات رابعة، كان سبباً في فشل عودة الثوار أمة واحدة، ومن ثم كسر الانقلاب في 25 يناير!.
وقد كانت فكرة "حجز قطار الثورة من المخزن" سبباً في تجاوز البعض في حق من وردت أسماؤهم فيها مثل الدكتور محمد محسوب والدكتور سيف الدين عبد الفتاح رغم موقفهما الرافض للانقلاب من أول يوم، وذلك بالتفتيش في الدفاتر القديمة، كاستقالة محسوب من الوزارة في عهد مرسي، واستقالة سيف عبد الفتاح من هيئة المستشارين للرئيس عقب الإعلان الدستوري الذي أجج الفتنة!.
في المحن، ينسى الناس الفضل بينهم، واستقالة الدكتور محسوب كان لها ما يبررها، فقد كان من رأيه وهو محق تماماً، أنه بعد الصلاحيات التي أعطاها الدستور لرئيس الحكومة، لا يصح أن يستمر الدكتور هشام قنديل في موقعه. وهو عندما استقال، لم يخن الرئيس بالغيب، ولم يتآمر عليه. وكذلك الدكتور سيف عبد الفتاح، الذي فوجئ بالإعلان الدستوري دون أخذ رأيه أو مشورته، ودون إحاطته علماً به. وكان هذا الإعلان من المحطات القليلة التي خرجت فيها دفاعاً عن الرئيس في مواجهة الثورة المضادة، فلولاه لتمكن القضاء، أحد روافد الدولة العميقة، من تحقيق الانقلاب مبكراً. فلم أكن مستشاراً للرئيس، حتى أبني موقفي على الإجراءات، ولو كنت في موقع الدكتور سيف لاستقلت، فلا أتقبل على شرفي الثوري، أن يقال عني إنني "عدلي منصور".
لقد خرج الدكتور سيف من القصر الرئاسي، لكنه في ساعة الجد، انبرى فارساً عظيماً في ساحات الوغى، لكن الفتنة أبخسته أشياءه، والبعض لا يعرف كيف يختلف معك إلا عندما يحولك إلى الشيطان الرجيم، ابتداء، ليسهل له بعد ذلك الانقضاض عليك.
لا أظن أن كلاً من الدكتور سيف ومحسوب قد استشيرا في أمر مبادرة "الحجز من المخزن"، ولعلهما عندما وصل إلى علمهما الاختيار صمتا، حتى لا يتهما بأن موقفهما كان سبباً في تبديد وحدة الثوار، ما من شأنه أنه حال دون كشف "الأشاوس" عن "خلطة كنتاكي السحرية" لكسر الانقلاب في يوم 25 يناير.. وهذه هي الأزمة الحقيقية.
فبعض الذين لم يجدوا تذاكر في محطة القيام لقطار عبد الفتاح السيسي، وبعد أكثر من سنة دافعوا فيها عن الانقلاب وبرروه، ودافعوا عن القتل والاعتقال، وعودة حكم العسكر. جاءوا الآن وعلى قاعدة أن "اليد العاطلة نجسة" ليبحثوا لهم عن مكان في "مخزن القطارات" بمنطقة الشرابية، وجاءوا ليفرضوا شروطهم، ومن عجب أنهم وجدوا من يسمع لهم، فلا بد من اعتذار الإخوان، ولا بد من تجاوز فكرة عودة الرئيس محمد مرسي، ولا بد من إنزال إشارة رابعة!.
ستقول لهم إن علامة رابعة تعبيرٌ عن موقف انساني، هو الأكثر إحراجاً للانقلاب في المحافل الدولية، لكنهم سيصرون علي موقفهم ولا تعلم أن السبب في ذلك، أنهم ضالعون في الجريمة، فقد حرضوا عبد الفتاح السيسي وفوضوه على الدم وزينوا له سوء عمله ليراه حسنا.
ويصبح المطلوب الآن من الأمهات الثكلى، والزوجات المترملات، ومن فقدوا السند في الحياة، أن يتعاملوا بانتهازية وبنظرية "الحي أبقى من الميت"، ونسيان من فقدوا لأن النسيان سيكون سبباً في رضا شباب الثورة الباسلة، فيكشفوا عن "خلطة كنتاكي".
لا أحب اللف والدوران، فهناك تصور بأن الثورة لن يقبلها الغرب، إلا إذا تم تمكين صنيعة السفارة الأمريكية بالقاهرة من تخطي الرقاب، وهو تصور خاطئ، فلو كان في هؤلاء الخير، لما "رماهم الطير"، ولما تجاوزهم عبد الفتاح السيسي، ولما ناصبهم العداء، لأنهم في الواقع لا يمثلون أوزاناً حقيقية في المجتمع، ولقد تراجع الإسلاميون كافة للخلف في ثورة يناير 2011، وقدموا القوى المدنية لصدارة المشهد، وهذا لم يمنع السفارة الأمريكية من مد وزارة الداخلية بسبع عشرة سيارة مصفحة، لتدهس الثوار، كما أنه لم يمنع من انحياز البيت الأبيض لمبارك، وإعلانه على لسان هيلاري كلينتون، أن النظام في مصر قائم. في إشارة لا تخطئ العين دلالتها.
بيد أن الموقف الأمريكي تغير عندما رجحت كفة الثوار، والذين يملكون تغييره الآن هم من في الشوارع يناضلون على مدى عام ونصف العام، دفعوا الثمن غالياً من "لحم الحي"، ليأتي الحاجزون "من المخزن" ليطلبوا منهم المزيد، مقابل تمكينهم من الحكم!.
ولا يمكن للغرب أن يبيع عبد الفتاح السيسي، بكل ما يقدمه له، إلا بفعل الثوار الحقيقيين، وليسوا من سعوا من البداية في أن يحجزوا لهم مقاعد "من المخزن"، في حوارات الصباح والمساء، ما بين المجلس العسكري وحكومة عصام شرف!.
ولو كان النصر بالتودد للغرب وتغيير "عتبة البيت"، وما دامت غلبت علينا السماحة واعتنقنا رسالة الغفران، وسمحنا لمن فوضت للقتل أن تكون مرجعية في الحكم، وكل حيثياتها في دنيا النضال والثورة أنها غير محجبة، وما دام الدكتور البرادعي بات مغفوراً له، فلماذا التعامل بطريقة "أين أذنك يا جحا"؟!.. فلتُجرَ مفاوضات معه! يكفي أنه رقم صحيح، في حين أن كل الحركات، والهمزات، والمتطفلين والمتطفلات على الحالة الثورية، هم "فكة". ما دام المطلوب هو تنازلات من القوى التي تملك الشارع الآن!.
ومهما يكن، فمطلوب من "الحاجزين من المخزن" أن يعلموا ، أنه في هذه المرة لن يفوز باللذات كل مغامر، فليس أمامنا سوى طريق من اثنين، الأول أن يسبقنا رعاة الانقلاب دولياً ومحلياً بخطوة، إذا وجدوا أن الثورة محتدمة، فيقدموا على تدوير الانقلاب وتقديم شخصية مدنية، ليست متورطة في القتل، وهنا سيكون التفاوض مع من يملكون الشارع وهم الإخوان، أو الإسلاميون بشكل عام!.
ولن يكون لـ"الحاجزين من المخزن"، ومعهم واحد مثلي، أي دور في أي اتفاق، فالاتفاقات ستكون بين من لهم أوزان على الأرض!.
الطريق الثاني، أن تتمكن الثورة من إسقاط الانقلاب، ومن ثم يكون اللجوء للاحتكام للإرادة الشعبية، وعندها ستكون المنافسة بين الإسلاميين وبين الثورة المضادة، ومن يريد أن يكون له دور في الحياة السياسية، من غير هؤلاء، فعليه أن يقبل ببقايا طعام المائدة، والثورة المضادة ألقت ما فيها وتخلت، وليس على هؤلاء إلا الانتظار لكي يضعهم الدكتور محمد البلتاجي على قوائم حزب "الحرية والعدالة"!
منذ بداية الثورة، فطنت للمشكلة التي نعاني منها إلى الآن، وقلت لثوار الفضائيات، إن أحداً لن يأخذ من السلطة إلا بقدر ما تمنحه له الجماهير. والآن أكرر الكلام نفسه في مواجهة من يسارعون لـ "الحجز من المخزن".
رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فعندما يسقط الانقلاب سأعود إلي "جهينة" في "الصعيد الجواني" لكي أمارس هواية قديمة، وهي تربية الحمام، ولكي أصعد فوق السطوح و"أنده على طيري"!
وفي طريق العودة إلى "جهينة" سأحجز "من المخزن".. هنا فقط يصلح الحجز من هناك. تصبحون على مبادرة!
azouz1966@gmail.com