في أواخر عام 1491 تكالبت الجيوش الكاثوليكية على غرناطة التي صمدت وسط بحر لجج من الأعداء، فتلك المدينة الرائعة التي لم يزد عدد سكانها على 300 ألف نسمة، بنسائها وأطفالها ورجالها، أغلقت أسوارها عليها وبدأت تأكل أوراق الشجر وجذور النباتات من الجوع، فلم يكن هناك طعام يصل إليها، وبدأ الناس يتساقطون جوعا في طرقاتها، فخارج الأسوار كان هناك عشرة آلاف فارس وخمسون ألف راجل، مسلحون بالدروع والمدافع تحت راية الملك الكاثوليكي، قد أقسموا على إسقاطها مهما كان الثمن، لقد قررت كل أوروبا إخراج المسلمين من إسبانيا، ولم يبق منهم سوى تلك الجزيرة المعزولة التي تسمى غرناطة.
كثر ضحايا الجوع والقتال وتكدست الجثث داخل السور، جوعا وقتلا، فقرر الأمير أبو عبد الله ألا مفر من الاستسلام، فبدأت وفود فرناندو وايزابيلا في الدخول إلى قصر الأمير للتفاوض على شروط، يقبلها الطرفان.
وفي قصر الحمراء الذي يقع على ربوة عالية مقابلة لحي البيازين صرخ موسى بن أبي الغسان في جموع المستشارين والوزراء:
"ليعلم ملك النصارى أن العربي ولد للجواد والرمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها غالية، أما أنا فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموت مدافعا عنه، من أفخر القصور التي سنغنمها بالخضوع لأعداء الدين".
لم يكن أحد ليسمع لهذا الفارس الذي كانت له صولات وجولات على أسوار غرناطة، فجحيم الموت الذي يخيم على المدينة لا يترك صدى لما يقول، ولكنه كان يحاول إرسال رسالة إلى الموقعين، فكانت الرسالة الثانية:
"خير لي أن أحصى من بين القتلى الذين ماتوا دفاعا عن غرناطة؛ من أن أكون بين الذين شهدوا تسليمها".
مرة أخرى، لم تسمع غرناطة المثخنة بجراحها صرخات الفارس الغاضب، فقد كتبت وثيقة الاستسلام ولم يبقَ سوى التوقيع عليها، ولكنه كان يستشرف نهايات المدينة ونهايات أهلها، فعندما وقع الأمير على الوثيقة صرخ بأعلى صوته:
"إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدنيس مساجدنا، وأمامنا الجور الفاحش والسياط والأغلال والأنطاع والمحارق، وهذا ما سوف تراه تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الموت، أما أنا فوالله لن أراه".
خرج من القصر وذهب إلى منزله ولبس لأمته وتدرع، ثم ركب فرسه وواجه سرية راكبة من الفرسان الكاثوليك على ضفة نهر شنيل، فكبر ثم دخل في وسطها ضاربا بسيفه، ولكنه سقط بسبب ضربة رمح، فتكالب عليه الفرسان وعندما شعر بضعفه رمى بنفسه في النهر هربا من آسريه.
هذه نهاية البطل موسى بن أبي الغسان، الذي تجاوزته الأدبيات العربية وكرمته الإسبانية بصفته الفارس العربي الشهم الذي يأبى الذل.
بعد
سقوط غرناطة بعدة سنوات دخل قساوسة محاكم التفتيش إلى تلك المدينة في كسر للاتفاقية، وبدأوا في جمع السلاح والكتب والسيطرة على المساجد، وأمر الناس بترك أبواب منازلهم مشرعة ومنع تدريس اللغة العربية والدين ثم منع الناس من الحديث بالعربية، ثم طلب منهم التوقف عن ارتداء اللباس العربي، ثم بدأت تلك المحاكم بحرق الناس أحياء في ميادين المدينة، ففي كل ميدان تمرون عليه في غرناطة ستشمون رائحة اللحم المحترق، حتى جاء قرار الطرد الكبير في 1609 الذي فرق فيه بين الأم وولدها، فقد أخذت الكنيسة كل الأطفال الصغار من آبائهم الذين شحنوا في سفن حتى تلقيهم على الشاطئ الإفريقي، وكان كل ما تنبأ به موسى بن أبي الغسان قد حصل.
نعتقد دائما بأن مثل هذه الأمور قد طواها التاريخ وكأننا نعيش نهايته، متوقعين ألا يتكرر، ولكنه التاريخ، يأبى إلا أن يكرر نفسه بصور مختلفة، فالصراع البشري لن يقف، وكل ما علينا فعله هو الاستعداد للمتغيرات، فأمثال بن أبي الغسان لا يحبون أن يعمروا طويلا، هم يحذرون ثم يموتون، وقد سمعنا مثل هذه التحذيرات مؤخرا، وكل ما علينا فعله هو مراقبة المتغيرات في اليمن وبلاد الشام والعراق، ثم الإنصات لأمثال موسى بن أبي الغسان.