كنا فيما مضى نسميها بالقضية
الفلسطينية، وكنا نقصد بها قضية تحرير فلسطين من الاغتصاب الصهيوني، وتطهير الأرض العربية من
الكيان الصهيوني، وإنقاذ المستقبل العربي من المشروع الصهيوني.
وكنا نعتبرها قضية العرب المركزية، وكانت على امتداد ربع قرن 1948 ـ 1973 هي القضية الأولى في جداول أعمال القمم العربية، وفي برامج الأحزاب والقوى والتنظيمات السياسية العربية.
ولكن اليوم حلت محلها "القضية الاسرائيلية"، التي أصبحت هي عامود الخيمة الرئيسي في كل الاستراتيجيات والسياسات والمواقف الدولية والإقليمية و العربية، بعد أن نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل على امتداد أربعة عقود من استقطاب الأنظمة والحكام العرب واحدا تلو الآخر، إلى التحالف معهم من أجل تصفية
القضية الفلسطينية لصالح وجود واستقرار وأمن اسرائيل.
وحين كنا نعتبرها "القضية الفلسطينية"، كنا نبحث كيف نحارب وكيف نتسلح، وكيف نتوحد أو نتضامن أو نتشارك فى الدفاع عن فلسطين وعن بعضنا البعض.
وكنا ندعم المقاومة ونسلحها ونحميها ونحتفي بعملياتها ونحرض على تكرارها ونؤبن شهداءها.
وكنا نقاطع حلفاء
إسرائيل و داعميها. و نحشد ونعبئ شعوبنا من أجل هذه المعركة المصيرية الطويلة. وكنا نرفض الاعتراف بشرعية إسرائيل، ونرفض التفاوض أو الصلح معها.
وكنا نغضب على أي حاكم أو نظام أو حزب أو حركة أو مثقف نشتم فيهم رائحة تلميح ولو عابر عن الرغبة فى السلام مع إسرائيل أو الاعتراف بها أو الاعتراف بالقرارات الدولية التي تعترف بها.
وكنا نتهم أمثالهم بالجبن والخيانة والرجعية والصهيونية. وكنا نعتبر أصدقاء أمريكا من الأنظمة العربية هم الطابور الخامس بيننا.
وكنا نحترم من القيادات أكثرهم عداءً وتحديا لإسرائيل. وكنا نسعى إلى توطيد علاقاتنا الخارجية بأى دولة تعادى أمريكا والاستعمار. وكنا نحرض شعوب و دول العالم على تبني قضيتنا والانحياز إلى مواقفنا.
أما منذ أن أصبحت قضيتنا المركزية هي "القضية الإسرائيلية"، قضية الحفاظ على وجود إسرائيل وأمنها، منذئذ، أصبحنا نتبارى في توقيع معاهدات الصلح معها والاعتراف بشرعيتها والاستسلام لشروطها والرضوخ لقيودها على جيوشنا وتسليحنا وانتقاصها لسيادتنا على أراضينا المجاورة "لحدودها".
ونتسابق فى طرح المبادرات والتصريحات التي تنفي تطرفنا وتصنفنا في قوائم المعتدلين عند السيد الأمريكي ومجتمعه الدولي.
وأصبحنا نتبارى للارتماء في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية، صانعة إسرائيل وحاميتها الرئيسية، ونتحالف معها ونشتري سلاحها من الفرز الثاني والثالث. ونمتثل لأوامرها في تحديد وتقييد قواتنا وأسلحتنا نوعا وكما وتوجيها واستخداما. ونخضع لرغبتها في الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي النوعي على كل دولنا العربية مجتمعة.
ونصالح من يصالحها ونعادى من يعاديها. ونحتشد وننفض وفقا لرغباتها. ونستأذنها في كل قراراتنا وسياساتنا.
وأصبحنا نُحكَم بالإكراه من أكثر القيادات مهادنة وخوفا و"اعتدالا" مع إسرائيل.
وأصبحنا نضغط على الفلسطينيين لكي يستسلموا "لإسرائيل" ويعترفوا بحقها في الوجود على أرض فلسطين التاريخية. ونعمل على كسر إرادة من يتصلب منهم، ونشارك في حصاره وحظر السلاح إليه، ونبارك صراحة أو ضمنا الاعتداءات الصهيونية عليه، ونحرص على توقيف واعتقال من يقع تحت أيدينا من مقاومته. ونصادر أسلحته ونغلق معابره ونهدف أنفاقه. ونهاجمه ونشوهه ونعاديه.
وأصبحنا نرتعب وننزعج وندين أي عملية للمقاومة بمجرد وقوعها، ونسخر ونسفه قيم الصمود والبطولة والاستشهاد، ونتهمها بالطوباوية وباللاواقعية وبالتطرف والتشدد والإرهاب.
وأصبحنا نضلل شعوبنا، ونكذب عليها، ونزيف وعيها، بأن إسرائيل قطر شقيق و جار مسالم وأمر واقع. وأصبح التنسيق والتعاون والشراكة الأمنية معها ضرورة وحق وواجب وعمل وطني وعاقل وحكيم.
وأصبحنا نفتح حدودنا ومعابرنا للصهاينة، ونرحب بهم فى بلادنا وعلى شواطئنا، ونحرمها على الفلسطينيين الذين أصبحوا هم الأشرار و الخطر الأكبر على أمننا القومي.
وأصبحنا نطارد كل الكتاب والكتابات والأفكار والمفكرين والأحزاب والتنظيمات السياسية و القوى والتيارات الوطنية التي ترفض الاعتراف بإسرائيل، والصلح والتطبيع معها وتناصر فلسطين والمقاومة الفلسطينية، ونحظر أنشطتها ونغلق منابرها ونعزلها ونطارد عناصرها.
إنه النظام الرسمي العربي في أسوأ مراحله وأظلم عصوره، ظلام لا يكسره سوى عبقرية الصمود الفسطيني وبطولاته وانتصاراته.