عندما سمعت ضجيجاً ضد
قانون التظاهر مؤخراً، ووصل الحال إلى حد مواجهته بالإضراب عن الطعام، فيما عرف بنضال "الأمعاء الخاوية"، قلت: "لقد عدنا إلى زمن المناضلة لبنى". عندما يتم التعايش مع الانقلاب العسكري، ويصبح الرفض لما أنتجه من قوانين تقر القمع - المعروف منه بالضرورة – ويؤسس للاستبداد.
لمن لا يعلم، فإن "المناضلة لبنى"، هي الصحفية
السودانية لبنى حسين، التي تعمل مسؤولة الإعلام ببعثة الأمم المتحدة في السودان، وقد تم إلقاء القبض عليها في يوليو 2009، في مطعم في الخرطوم، ضمن مجموعة من النساء، وكان الاتهام الذي تم تقديمهن بمقتضاه للمحاكمة أنهن يرتدين ملابس "منافية لقواعد النظام العام في البلاد". وقد حكم عليهن بالجلد والغرامة، في حين خضعت المحكمة للابتزاز الدولي، واقتصرت العقوبة التي أقرتها بالنسبة لـلسيدة "لبنى" على الغرامة، وقالت "لبنى": "لن أدفع الغرامة"، لكن هناك من دفعها بالنيابة عنها. وعلقت "لبنى" بأنها لا تعرف من تطوع ودفعها لإخلاء سبيلها!.
كان يمكن لـ "لبنى" أن تفلت من الاعتقال والمحاكمة، إن هي أعلمت السلطات بطبيعة عملها في منظمة دولية فلا تخضع بالتالي لتطبيق القانون، لاسيما وأنها لم تكن ترتدي ملابس كاشفة، فقد كانت تلبس بنطالاً، لكنها وبحسها الصحافي، وجدت أن الفرصة مواتية لتنتقل إلى زعيمة، وقد كان، وصارت في غمضة عين مناضلة، وحديث الدوائر الغربية، ليس فقط لكونها علامة على استبداد السلطة في السودان ورجعيتها، واضطهادها لحقوق المرأة، ولكن لأنها مناضلة كبيرة، ولولا أن المنطقة عرفت الربيع العربي، حيث النضال الحقيقي للشعوب في مواجهة الاستبداد، لربما حصلت على جائزة نوبل!.
"زمن المناضلة لبنى" كان عنوانا لمشروع كتاب لي كانت مادته جاهزة للنشر، وفكرت في إصداره، لولا انشغالي بعد ذلك بالثورة
المصرية والتحديات التي واجهتها، وظننت أن بقيامها ولى "زمن المناضلة لبنى" وصرنا في زمن المناضلين الحقيقيين الذين واجهوا الاستبداد بصدور عارية، ونجحوا بالسلمية في إسقاط عروش كنا نظن أنها راسخة.
"لبنى" ملأت الدنيا ضجيجاً، في ظل المساندة الغربية، وتقديمها غربياً على أنها تلخص نضال شعوب المنطقة في مواجهة الطغاة. وقد ظهرت في مؤتمر عقد في صنعاء، وقالت إنها تمكنت من الهروب من السودان، وقد ارتدت النقاب الأفغاني فلم يتعرف عليها القوم في مطار الخرطوم، وكأن اسمها ليس مدوناً في وثيقة السفر، وكأن صورتها في جواز السفر كانت أيضاً بالنقاب الأفغاني!.
وواضح أنها عادت من المؤتمر للخرطوم، وسافرت مرة أخرى لتشارك في مؤتمر "أوسلو للحرية" في مايو 2010، ولم تقل في هذه المرة أنها تخفت في نقاب أفغاني، لكن من الملاحظ أنها في عدة شهور نجحت في إعداد كتاب عن قضيتها ترجم للغة الإنجليزية، مع أن هذه القضية ليست أكثر من كلمة "ورد غطاها"، فلم يكن للسيدة "لبنى" نضال سابق ضد القمع والاستبداد.
"لبنى حسين" لم تكن حالة سودانية، ولكنها كانت ظاهرة عربية؛ تمثل النضال في الهامش الذي يحتفى به غربياً، وفي الدوائر الموالية لهذا الغرب، وهم هناك لا يثمنون النضال الجاد ولا يحتفون به، ولكن الاحتفاء والتكريم يكون لمن يناضل في القضايا الهامشية والفرعية، لأن النضال الجاد من شأنه أن يهز أركان الأنظمة المحمية من قبل البيت الأبيض، والذي يرى في أنظمة الاستبداد أنها خير من يحافظ على مصالحه في المنطقة، وأنها تحظي بتأييد إسرائيل!.
فضلاً عن أن المناضل الحقيقي، لأبد وان يكون رافضاً للهيمنة الأمريكية، ولهذا فإن المناضلين المحتفى بهم أمريكيا وأوروبيا، هم هؤلاء الذين لم يضبطوا متلبسين يوماً بالنضال الجاد وعلى أي مستوى، ولهذا شاهدنا أسماء عربية يجري الاحتفاء بها غربياً دون أن تكون على شيء!.
ظاهرة لبنى حسين، عرفناها في مصر، وشاهدنا كيف كان يتم تقديم إبراهيم عيسى مثلاً على أنه المناضل الأكبر، وهو الذي بنى شهرته على رفضه لتوريث الحكم، مع أن أداء صحيفته "الدستور" كان سبباً في تمييع هذه القضية، فلا حديث عن فساد مبارك وأركان حكمه، وفساد نجله وأسرته، ولا كلام عن التعذيب في السجون والمعتقلات، وإدخال المبيدات المسرطنة للبلاد، والعمولات التي كان يحصل عليها من هنا وهناك، وتصفيته للمكانة المصرية ولدور مصر، وبيع مقدرات البلاد لمجموعة من المغامرين بـ "تراب الفلوس"، وهم الذين مكنهم من أموال البنوك فنهبوها في حمايته!.
كان رفض جمال مبارك حاكماً يقوم على أنه تاه مثلاً في منطقة الزمالك وهو في طريقه لزيارة خطيبته، فيكون التساؤل: كيف لرجل لا يعرف شوارع بلد ومع ذلك يريد أن يحكمه؟!. ومن الإلحاح على هذه القضية كاد كثيرون يهتفون: "أرحنا بها يا مبارك"، ونشأ تيار عريض داخل حركة "كفاية" لا يرى غضاضة في وصول جمال مبارك للحكم باعتباره سيكون أول رئيس مدني ولوضع نهاية لحكم العسكر. وكان هذا لتبرير عجز هذا التيار على التغيير، مع أن "كفاية" قامت على قاعدتين: "رفض التوريث والتمديد".
كان يتم استدعاء إبراهيم عيسى وغيره ممن مثلوا امتداداً لظاهرة "المناضلة لبنى"؛ للتحقيق أمام النيابة العامة في قضية نشر، فتتداعى الدوائر سالفة الذكر بالسهر والحمى، ويجري التكريم ومنح جوائز "حرية الصحافة" لهم، في حين أن صحفاً أغلقت، وصحافيين جرى اختطافهم والاعتداء عليهم من قبل مليشيات مبارك، وكتابا دخلوا السجن في قضايا نشر، و"لا حس ولا خبر"!.
مع أن معارضة من يمثلون ظاهرة "لبنى" كانت تتم في حماية السلطة، ولم نكن بحاجة إلى عفو مبارك في قضية سجن عيسى، أو إعلان عيسى الآن أنه كان على اتصال بمدير المخابرات الحربية آنذاك عبد الفتاح السيسي، ليقف مثلي على أن هذه "المعارضة الشكلية" كانت مطلوبة أمنياً، ومحمية من قبل دوائر في نظام مبارك.
لقد جاء الربيع العربي لينهي ظاهرة "المناضلة لبنى"، وصارت المعارضة الجذرية لأنظمة الاستبداد هي المثمنة داخلياً، وإن كان الغرب قام بفرض كائنات بعينها لتقديمها على أنها رموز الثورات العربية، ليس لها ماض سياسي، ولا تنطلق من أرضية القضايا العربية والهم العربي المتوارث، قبل أن يساعد الغرب في الانقلاب على الثورة في مصر.
بعد الانقلاب العسكري، وجد فريق من المعارضين، أن المعارضة الجذرية لهذا الانقلاب ولاستبداده وجرائمه، مكلفة وباهظة الثمن، فعادوا يمثلون ظاهرة "المناضلة لبنى" صاحبة البنطال الشهير، لكي تكون كل مطالبهم تتلخص في إلغاء قانون التظاهر، والإفراج عن عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المعتقلين، من شيعتهم، وقد اعتقلوا بمقتضى هذا القانون، وكأن هذا هو المراد من نضال العباد.
المعتقلون خرجوا ضد قانون التظاهر، وقد ظنوا أنهم بانحيازهم للانقلاب سيحول دون قيامه بعقابهم، لكن فاتهم أن العسكر كانوا يريدونهم لـ "مسافة السكة"، وليسبغوا بوجودهم -وهم من ينتمون لثورة يناير- غطاء ثورياً على الثورة المضادة، ولم يعودوا بحاجة إليهم الآن!.
لقد تم اعتقالهم، واختزل المناضلون من أمثالهم نضالهم في الإفراج عنهم، وكأنهم هم المعتقلون فقط، وليس هناك أكثر من 22 ألف معتقل، من بينهم شيوخ وأطفال وفتيات.. وكأنهم لم يهتفوا يوماً "الحرية لكل الناس". وكأنهم لم يطالبوا بإسقاط حكم العسكر.
لقد دعوا للإضراب عن الطعام، ويبدو أن تنسيقاً ما جرى؛ فقد صرح محمد فائق الأمين العام لمجلس حقوق الإنسان "المعين من قبل الانقلاب"، بأن الحكومة أبلغته بتفهم السيسي لتعديلات قانون التظاهر. وصرح عضو المجلس جورج اسحق بأن السيسي سيقوم قريباً بإجراء تعديلات على القانون، وليس إلغائه. ومن الواضح أن أصحاب الدعوة الكريمة للنضال بالأمعاء الخاوية، لا يعنيهم من الأمر سوى الإفراج عن علاء عبد الفتاح ورفاقه، وقبل ساعات من كتابة هذه السطور قررت المحكمة إخلاء سبيلهم حفاظاً على "الأمعاء الخاوية" من أن تظل خاوية لأكثر من هذا!.
لا بأس، فإذا كانت ظاهرة "المناضلة لبنى" قد عادت مرة أخرى، فان الذي يهون على المرء أن هذه العودة تأتي بينما يوجد لدينا قطاع عريض من الشعب المصري يمارس المعارضة الجادة، ويدفع الثمن، لا يضره من ضل.
عادت الظاهرة وبقي أن نسمع الرائدة "لبنى"، التي صمتت منذ قيام ثورات الربيع العربي واختفت..
تقدمي إذن يا "لبنى"!