كتب غازي العريضي: هنا، في بلاد الرافدين، بلاد الخير والثروة والثقافات والحضارات والإنسانية والتنوع والإرث التاريخي، والخلفاء والعلماء والفقهاء، هنا في
العراق، في بداية القرن الحادي والعشرين. قرن التطور والعلم والتكنولوجيا والقرية الكونية الواحدة كما يقولون. هنـا بعد سـنوات من «التحرير» وإطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد، مشروع تعميم «الديموقراطية» في المنطقة على يد إدارة الإرهاب في واشنطن أيام حكم الرئيس جورج بوش الابن وفريقه.
هنا أبرز النتائج: سرقة ونهب وتبديد ثروة، وإنفاق خيالي على مؤسسات ومشاريع تبين أن معظمها وهمي، وسيطرة على النفط، وتحكّم به. جيش انهار خلال ساعات أمام ميليشيات وتبخرت معه عشرات المليارات من الدولارات قيل إنها أنفقت على إعادة بنائه. هنا في العراق، فتنة مذهبية سنُية- شيعية مفتوحة. قتل على الاسم، على الهوية، على الكلمة، على الموقف، على الانتماء، على المصلحة. قتل مفتوح مفضوح، وتهجير، وجرح كردي نازف، ومشكلة قومية، وعرقية تبدو في بداياتها. أقاليم يُراد أن تتحول إلى دويلات ترسم حدودها بالفتن المفتوحة والدماء والذاكرة المجروحة. هنا أبشع صورة يعيشها العالم اليوم. تهجير للمسيحيين، اقتلاعهم من جذورهم ومن كنائسهم، ومن أرض الله من الذاكرة الجماعية. هكذا يريد المتطرفون والإرهابيون. وكل شيء باسم الدين وباسم الله. هنا في العراق، وعلى مرأى ومسمع من كل العالم، يُذلّ «الأيزيديون»، يُهجّرون، تُسبى نساؤهم، يُقتل أطفالهم،ُ تباع النساء والفتيات في أسواق النخاسة، يُدفن المئات منهم أحياء، والعالم يرى كل ذلك.
في السابق ، كنا إذا رأينا مشهداً، شعرنا بأن ثمة كاتب نص سينمائي وسيناريو، وراء هذا الخيال. نحن اليوم لسنا أمام خيال، نحن في قلب الواقع، وفي صدر الشاشة ولا يحاول أحد من الكبار قلب هذا الواقع، كل العالم يتفرج على مسيرة
الإيزيديين، مسيرة الجلجلة الصعبة المريرة المذلة التي لا تحمل إلا القهر لبشر لا ذنب لهم إلا أن ثمة من أفتى باسم الدين، ولا علاقة لهم بالدين ورسالاته الإنسانية والأخلاقية. أمر معيب، وعار لن يغيب عن ذاكرة الأجيال المقبلة، هذه هي ديمقراطية أميركا الموعودة، وسياسة أميركا لاحتلال العراق وما بعده. يوم حصل الاجتياح، كتبت كثيراً وكان لي كتاب باسم «إدارة الإرهاب»، أي إدارة بوش. فيه توثيق لكل ما جرى وتعليق عليه، فيه كلام عن بلاد ما بين النهرين، التي وقع أهلها بين القهرين: قهر نظام صدام وقهر نظام وإدارة بوش، وذلك في الصدام المفتوح مع الأخلاق والإنسانية والكرامة.
واليوم يعيش الإيزيديون والمسيحيون والعراقيون عموماً بين قهرين: قهر المالكي الذي أطلق عليه بعضهم لقب صدام الثاني، وقهر إدارة أوباما، التي انتقدت الإدارة السابقة واعتبرت أنها حققت إنجازاً في سحب قواتها من العراق، لكن ما تقوم به اليوم لا يختلف في كثير من الأمور، ولناحية النتائج عمّا حصل مع الإدارة السابقة.
المشهد معبّر، طائرات أميركية تغير على مواقع «دولة الخلافة» لتؤكد أنها ترفض استهداف الأقليات، ولا تقبل التطرف والإرهاب كما قالت إدارة أوباما. الغارات خجولة، رسائل إلى الداخل العراقي، وإلى طهران ودول الخليج. في الداخل لا تقبل تمرّد المالكي في وجهها. ولا تريد الفصل مع من يدعمه، بل تبحث عن وصل، واستفادت من موقف المرجعية الشيعية في النجف، ثم موقف المرجعية في قم ، ولاحقاً موقف خامنئي في طهران، التي لا تريد أميركا القطع معها أيضاً، بل الاستمرار في التفاوض، ولكن على قاعدة الالتزام بالانضباط الكلي في المنطقة. استفادت واشنطن من احتلال «
داعش» للموصل، ومن الأعمال التي تقوم بها لتنفيذ بعض الخطوات والسياسات، فجاء القصف لـ «داعش» لاحقاً برسالة إلى طهران في هذا الاتجاه، وكان تجاوب إيراني حتى الآن، من خلال الاتفاق على تسمية حيدر العبادي رئيساً جديداً للحكومة وانكفاء المالكي الذي كان قد هدّد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من يقف في وجهه، وفي طريق تكريس حقه برئاسة الحكومة! وكانت رسالة أخرى لدول الخليج وللسُنة داخل العراق وفي المحيط، الذين أصابهم اليأس من السياسة الأميركية. هل يعني ذلك أن هذه السياسة قد تغيرت أو ستتغيّر؟
رأيي الشخصي: لا. الخطوات الأخيرة فرضتها الوقائع. لكن الخط البياني للسياسة الأميركية لن يتعدّل! المؤلم هنا والمعبّر عما أقول، هو مشهد إذلال الإيزيديين، وتحرك الطائرات الأميركية لرمي المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية لهؤلاء الناس مشهد لا مثيل له. معبّر، مقلق، مرعب.
أميركا لا تريد الدفاع عن الأقليات، هذه كذبة، المسيحيون هجّروا، وكانت أميركا تريد في بداية الحرب الأهلية اللبنانية أن تنقلهم بالبواخر إلى ديار العالم كما عرض أكثر من مسؤول أميركي على القادة المسيحيين وفي لقاءات ومحطات سياسية كثيرة. مسيحيو العراق هجروا استوعبهم الغرب. هجّر القسم الباقي منهم اليوم. خرجت فرنسا لترحب بهم في ديارها وتستقبلهم علـــى أراضيها. لماذا؟ لأنهم يريدون تحقيق توازن بين المسيحيين الوافدين المهجرين المقتلعين من أرضهم وبين المهاجرين المسلمين الوافدين إلى أوروبا. إذاً، الخطوة ليست إنسانية أخلاقية، هي سياسة في هذا الاتجاه، أما العمل فكان ولا يزال يجب أن ينصّب على إبقاء الناس في ديارهم لإبقاء التنوع في بلادهم ! وما جرى مع الايزيديين يؤكد ذلك أيضاً.
لو كانت أميركا تريد عكس ذلك لما حصل ما حصل. لو كانت تريد ضرب الإرهاب لما غطت إسرائيل وحربها على غزة في الوقت ذاته الذي نرى فيه مشهد العراق. من هو المسؤول عن قتل الناس في فلسطين، في غزة تحديداً الأطفال النساء المدنيين؟ ماذا فعلت أميركا غير تغطية الجرائم الإسرائيلية؟ قد يجيب البعض «حماس» هي المسؤولة. لن أدخل في نقاش هنا حول هذا الأمر. فقط أشير إلى ما تناساه الناس، وهو أنه عندما أعلن خبر أسر ضابط إسرائيلي قامت قيامة أوباما وطالب «حماس» بإطلاق سراحه فوراً ودون شروط. وتبعه على الموجة ذاتها أمين عام الأمم المتحدة. قامت إسرائيل بارتكاب مجزرة في مدارس الأمم المتحدة خلال الهدنة، وبعد الإعلان عن الأسر المزعوم، اكتشف العالم أن الخبر غير صحيح. والضابط قتل في المواجهات. من هو المسؤول عن قتل الأبرياء الفلسطينيين؟ أليس في تلك الجريمة إرهاب وقتل متعمّد؟ ماذا فعلت أميركا؟ حتى كلمة اعتذار لم تصدر من أوباما وإدارته. لأنه يحق لإسرائيل أن تفعل ما تشاء في نظر الإدارة الأميركية. ورغم ذلك تبقى المسؤولية العربية هي الأساس في حفظ وحدة العراق، وبقاء أبنائه على أرضه يمارسون شعائرهم وقناعاتهم بحرية تامة، ليبقى التنوّع ميزة منطقتنا وإلا سقطنا جميعاً، وعامل الوقت ليس لمصلحتنا، على أمل أن تكون الخطوات السياسية الأخيرة في العراق في هذا الاتجاه. تبقى الجريمة في حق الإيزيديين والمسيحيين وصمة عار في بداية هذا القرن.
(عن الاتحاد الإماراتية 16 آب/ أغسطس 2014)