بعد أن سيطر تنظيم
الدولة الإسلامية في العراق والشام على مدينة الموصل العراقية في 10 حزيران/ يونيو، وبسط سلطته عليها، وإقدامه على تنصيب أميره أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين في التاسع والعشرين من الشهر نفسه، شرع "التنظيم" في تطبيق الأحكام الشرعية وفق أيدلوجيته الدينية ورؤيته الشرعية.
كان قرار "الدولة الإسلامية" الصادر بتاريخ 17 تموز/ يوليو، القاضي بتخيير نصارى الموصل بين إحدى ثلاث: "الإسلام أو عهد الذمة (وهو أخذ الجزية منهم)، فإن هم أبوا ذلك فليس لهم إلا السيف"، أكثر تلك الأحكام إثارة للجدل، والذي أفضى إلى جلائهم عن المدينة بأنفسهم، بعد أن "منَّ عليهم أمير المؤمنين الخليفة إبراهيم، بالسماح لهم بالجلاء بأنفسهم فقط من حدود دولة الخلافة" على حد تعبير بيان الدولة.
كما قام التنظيم في سياق تطبيقه للأحكام الشرعية، استنادا إلى منظومته العقائدية والفقهية التي يصدر عنها، بتفجير وتدمير مرقد النبي يونس عليه السلام شرق مدينة الموصل، ومرقد النبي شيت (على ما هو شائع ومتداول) وسط الموصل، الذي قوبل بردود فعل محلية وإقليمة ودولية ساخطة ومستنكرة.
يستند تنظيم الدولة الإسلامية في أفكاره وعقائده المنتجة لقراراته وسياساته وتحركاته، إلى منظومة السلفية الجهادية، التي تتماهى في أصولها العقائدية والمنهجية بالدعوة الوهابية النجدية، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا تُقابل تطبيقات التنظيم للأحكام الشرعية -وفق تصوراته- بالاستهجان والاستنكار؟ ولماذا لا تستقطب تطبيقاته تلك علماء وفقهاء ودعاة مشهورين ومعروفين، يدعمونه ويتبنون الدفاع عنه في مسالكه الرامية إلى تطبيق الشريعة؟ وما هي وجوه الخطأ والخلل التي واقعها التنظيم من وجهة نظر منتقديه ومعارضيه؟
شرعية الدولة قبل تطبيق الأحكام
في معرض تقويمه وتقييمه لأداء تنظيم "الدولة الإسلامية" في تطبيقاته للأحكام الشرعية، رأى الدكتور صلاح الخالدي أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة العلوم الإسلامية الأردنية أن الطريقة التي عقدوا فيها البيعة لأميرهم كخليفة للمسلمين لم تتم وفق الأصول الشرعية الصحيحة، وهي من وجهة نظره باطلة، وأن ما بني على باطل فهو باطل.
ويشرح الدكتور الخالدي لـ "عربي 21" أن الدولة الإسلامية التي تتولى تطبيق الأحكام الشرعية، تكون دولة ذات سلطان كامل وتام، ولها كيانها ونظامها، ولها علماؤها وفقهاؤها، وتكون قبل ذلك قد حازت على شرعيتها من رضا المسلمين بها، بمبايعة أهل الحل والعقد والرأي في الأمة جميعهم لها، وليس مجلس شورى تنظيم واحد فحسب.
ووفقا للدكتور الخالدي فإن تطبيق الأحكام الشرعية تعتبر قضية فرعية تنبثق عن قيام الأصل وانعقاده، ألا وهو الدولة الإسلامية القائمة على أصولها، فما دام أن الأصل لم يتحقق في حالة "خلافة البغدادي" التي أعلن عنها تنظيمه، فإن تلك الدولة ليست مخولة بتطبيق الأحكام الشرعية المنوطة بالدولة، والتي لا يتولى تطبيقها إلا من انعقدت له الإمامة بمواصفاتها الشرعية المعتبرة.
من جهته أبدى الأكاديمي السوري، عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة بجامعة مؤتة الأردنية، الدكتور محمد سعيد حوى تحفظه على كثير من الأخبار المتداولة حول تطبيقات الدولة الإسلامية، لافتا إلى أننا "أمام حالة المعلومات فيها متضاربة ومتناقضة، ومعظمها مصدره الخصوم والإعلام، والكل يرغب في تشويه الكل" موجها نصيحته لتنظيم الدولة بأن "يكون لهم ناطق رسمي يوضح أمورا كثيرة، ويجيب عن تساؤلات متدوالة ومطروحة".
وبخصوص ما أقدم عليه تنظيم الدولة الإسلامية من تطبيق الحدود، وفرض الجزية وغيرها، أوضح الدكتور حوى لـ"عربي 21" أنه "لا بد من شروط مسبقة، منها تحقيق الحماية والرحمة والعدل والحق، والعلم والفهم والتربية المسبقة، وانتفاء مبررات الجريمة، والقدرة على حماية الأمة من الانتقام أو التدخل الخارجي، مع حسن البيان للناس".
وبحسب حوى فإن غالب ما سبق ذكره ليس موجودا ولا متوفرا، مرحجا أن يكون "المنهج الاستبدادي التسلطي الإقصائي الطائفي الإجرامي الدموي البشع الذي اتبعه المالكي في سياساته تجاه العراق وأهله وبخاصة أهل السنة، ومن ورائه إجرام الساسة الإيرانيين" جعل الكثيرين يرون أنه لا سبيل لمواجهة ذلك الإجرام إلا على "نحو من بعض تصرفات (الدولة الإسلامية)" وهو ما لا يمكن للفقيه إقرار الكثير منها وخاصة فيما يتعلق بسياسية إعلان الخلافة، وتطبيق الحدود، والجزية، والموقف من الآخر، وفقا لتوضحيات الدكتور حوى.
أسئلة المرجعية والمشروعية
أثارت تطبيقات تنظيم الدولة الإسلامية للأحكام الشرعية وفق مفاهيمه ورؤاه الدينية، جملة من الأسئلة المعترضة والرافضة لنموذجه ونسقه (فهما للأحكام وتنزيلا لها) الذي بات أمرا واقعا بسيف القوة والسلطة، وقد تمحورت غالبية تلك الأسئلة حول مشروعية إعلان الخلافة والطريقة التي انعقدت بها، والمرجعية الدينية التي يرتكز إليها التنظيم، وينطلق منها.
ثمة من يعقد مقارنات بين نموذج الدولة الإسلامية وبين الدولة السعودية الأولى، ليخلص إلى القول بوجود وجوه شبه كثيرة بين الدولتين، خاصة في اتخاذ "الدولتين" الرؤية الوهابية النجدية مرجعا موجها وحاكما، بحسب كتابات وتعليقات مغردين على مواقع التواصل الاجتماعي.
في السياق ذاته طرح الأكاديمي السعودي، عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الدكتور سلطان العميري، على صفحته "الفيس بوكية" سؤالا مثيرا يقول: "كيف نناقش من يربط بين الفكر "
الداعشي" وبين أئمة الدعوة النجدية"؟.
قال العميري في بداية منشوره "إنه بعد انتشار "الفكر الداعشي الغالي في التكفير واستباحة الدماء"، (على حد تعبيره)، وأخذ أتباعه في نشر أفكارهم، توصل بعض المشايخ وطلبة العلم إلى أن هذا الفكر ليس إلا امتدادا طبيعيا لفكر أئمة الدعوة النجدية، وأن التلازم بين أقوالهم ظاهر بين.
وأضاف: "وجمع بعضهم عددا من المسائل والقضايا التي يرى أن "الدواعش" (بحسب تعبيره) لا يختلفون فيها عن أئمة الدعوة -كلهم أو أكثرهم-، وذكر أن علماء السلفية المعاصرين -وخاصة السعوديين- لا يمكنهم أن يجيبوا على "الفكر الداعشي" بكلام مقنع لهم، لأنهم يتفقون معهم في الأصول والمنطلقات المأخوذة من أئمة الدعوة النجدية".
لم يرتض العميري المسارات التي سلكها عدد من طلبة العلم في الرد على تلك الدعوى ومحاولة نقضها، مؤكدا في سياق مناقشته وتحليله وتعليله على أن "(الدواعش) لا يرسلون كلامهم إرسالا، وإنما يعتمدون على نصوص وأقوال كثيرة من أقوال أئمة الدعوة النجدية وغيرهم، ويشهرونها دائما في وجه من يخالفهم، ويعلنون في الملأ بأنهم ليسوا إلا أتباعا لأئمة الدعوة النجدية وعقيدتهم، ويذكرون النصوص التي اعتمدوا عليها في أقوالهم.
على صعيد مقارب فإن
حزب التحرير الإسلامي، الذي جعل من فكرة إحياء الخلافة وإعادتها قضيته المركزية التي أوقف عمله عليها، كان من أبرز المعارضين والرافضين لنموذج "الدولة الإسلامية"، فاستنادا إلى تصريحات رئيس المكتب الإعلامي للحزب في الأردن، ممدوح قطيشات لـ" عربي 21"، "فإن تصرفات تنظيم الدولة المبنية على إعلانه تسمية أميره بالخليفة ليست تصرفات شرعية" معللا ذلك بقوله: "لأنه في الأساس لم ينعقد بهذه التسمية حكم، وإنما وقع لغوا، وما يقع لغوا لا تترتب عليه آثاره فكأنه ليس موجودا أصلا".
ويشرح قطيشات رؤية الحزب لحكم غير المسلمين في دولة الخلافة بقوله: "لا بد من التأكيد على أن الإسلام يرفض فكرة الأقليات من أساسها، ويعتبر أن جميع الناس في دولة الخلافة يجب أن يعاملوا معاملة واحدة من حيث الحكم ورعاية الشؤون، ولا يجوز للدولة أن تميز بين رعاياها بناء على عرق أو لون أو جيش أو دين".
ويوضح قطيشات أن "وجود غير المسلمين في بلاد المسلمين قرونا طويلة على أملاكهم وأموالهم ومصالحهم، يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا يعيشون بين المسلمين عيشا طبيعيا، فوجودهم ليس طارئا، بل هو وجود طبيعي" مستنتجا "ولو أنهم واجهوا تضييقا أو ملاحقة وتهديدا في ظل دولة الخلافة لما بقوا يعيشون فيها طيلة أربعة عشر قرنا آمنين مطمئنين..".
وحول رؤية الحزب لما ينبغي أن تسلكه دولة الخلافة التي يؤمن بعودتها في كيفية معاملتها لغير المسلمين من رعاياها، أكد قطيشات أن فهم الإسلام وتطبيقه على وجهه يظهر فيه حسن الرعاية والعناية بغير المسلمين في دولة الخلافة، ابتداء من تسميتهم بأهل الذمة التي تدل على أن في أعناق المسلمين عهدا وعقدا تجاههم يوجب عليهم رعايتهم وحمايتهم، ورفع الظلم عنهم والدفاع عنهم، وأن دولة الخلافة ستفي لأهل الذمة بعهودهم ومواثيقهم ليعودوا ينعمون بعدل الإسلام ورعايته كما كانوا من قبل من غير أن يظلموا أو تنتقص حقوقهم.
شرعيو "الدولة" يردون ويفندون
يتولى شرعيو "الدولة الإسلامية" مهمة الرد على اعتراضات المعترضين على دولتهم، وتفيند ما يسمونه "شبهات" الطاعنين في شرعية "خلافة" أميرهم البغدادي، ويقدمون حججهم وأدلتهم سواء من الأدلة الأصلية في الكتاب والسنة، أو من أقوال الأئمة والعلماء المتقدمين.
من ضمن الرسائل المبينة لأفكار التنظيم والموضحة لرؤاه الشرعية، والمتصدية للرد على "شبهات" المشككين والطاعنين في خلافة البغدادي، رسالة بعنوان: "الرد المختصر على مناوئي خليفتنا أبي بكر" لكاتبها فتى التوحيد.
يوجه كاتب الرسالة "فتى التوحيد" أتباع الدولة وأنصارها في معرض ردهم على من يقول: "الدولة الإسلامية لم تشاور الجماعات والفصائل والتنظيمات الأخرى ولم تشاور علماء المسلمين شرقا وغربا، ولم تشاور القاعدة وغيرهم في إعلان الخلافة" بقوله: "لا يُشترط مشاورة كل علماء المسلمين ولا كل رؤوسهم وأمراء جهادهم حتى تصح خلافة الخليفة وتنعقد له البيعة، وهذا أيضا شرط باطل منهم ليس في كتاب ولا سنة" بحسب نص الرسالة.
ويقرر وفق رؤيته وفهمه بأنه "لا يشترط مشاورة كل علماء المسلمين ولا كل رؤوسهم وأمراء جهادهم حتى تصح خلافة الخليفة وتنعقد له البيعة، بل يكفي مشاورة من قرب وأمكن مشاورته من المسلمين من أهل الحل والعقد الذين تقوم بهم الشوكة.." ومن الأدلة التي ساقها على ذلك أن "أبا بكر الصديق عند تنصيبه لم يُشاور كل الصحابة أهل الحل والعقد كعلي بن أبي طالب، ولم يُشاور المسلمين خارج المدينة كالمسلمين بمكة والبحرين.. ومع هذا فبيعته وخلافته كانت صحيحة".
ويتصدى كاتب الرسالة للرد على من يصفون الدولة بأنها "دولة غلاة خوارج، سفاكين للدماء، فساق وقد يكونون حزب بعث وروافض متسترين، متسائلين: فكيف تصح خلافتهم؟"، مطالبا لهم بقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. فلتثبتوا لنا بشهادة الشهود العدول أو بالإقرار أن خليفة الدولة وقادتها على مذهب الخوارج، أو أنهم فساق أو يستحلون الدم الحرام بغير حق...؟
وحذر كاتب الرسالة من قبول شهادات خصوم الدولة، "لأن شهادة الخصم على خصمه لا تُقبل في أحكام القضاء الشرعي"، متنزلا في محاججته لمعارضي الدولة بقوله: "وإن تنزلنا وقلنا أنهم فساق يستحلون الدم الحرام بغير حق.. فخلافة خليفتهم صحيحة شرعا، ما دام توفرت فيه بقية شروط الخلافة، لأن أهل السنة يرون الغزو والحج مع البر والفاجر، وتنعقد عند الإمامة للفاسق ابتداء إن لم يوجد غيره ممن تقدم للخلافة، وانعدمت الخلافة والإمامة العظمى في الأمة".