في الفيديو المشار إليه يبكي الشيخ أبو إسحاق الحويني، تأثرا، لأن صحفيا هو إبراهيم عيسى قال إن المجتمع النبوي شهد حالات من التحرش بالنساء، وكان هذا سبب نزول آيات الحجاب حماية للمسلمات من الحرائر والجواري على حد سواء.
يبكي الشيخ تأثرا، رافضا، مدينا، حاملا على الصحفي الذي وصفه بـ "الأنوك"، لأنه تجرأ وقرأ، ليته قرأ، بل اعتمد ناقلا عن غيره قراءة مختلفة لوقائع تاريخية مر عليها مئات السنين ترى أن مجتمع المدينة كان مجتمعا إنسانيا عاديا، شهد من النقائص ما يشهده مثله من المجتمعات، وأنهم في النهاية بشر، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، هذه القراءة غير المثالية استدرت دموع الحويني متأثرا، بصدق كما أظن، لأن الاتهام بالتحرش بحسبه اتهام مسيء للصحابة ولا يليق بحق من شهد عصر النبوة! .
الشيخ بكى لمجرد وصف وقائع التعرض للنساء في الطرقات الثابتة تاريخيا بـ "التحرش"، آلمته الكلمة، أوجعته، ذكرته بمن كانوا يسبون النبي في الغزوات، ساوى بين كلام الصحفي في وصف واقعة تاريخية وبين سباب الكافرين للنبي في ميادين القتال، استنكر الشيخ أن يقال مثل هذا الكلام في بلاد المسلمين، تساءل عن دور الأزهر، تساءل عن وظيفة شيخ الأزهر، تعجب من سكوته إزاء ما يتعرض له الإسلام في بلاده، وبكى الحويني، بكى بحرقة .. إي والله.
بكى الشيخ من أجل التاريخ ولم يبكه الواقع بل لم يحركه وجلس جوار أخيه "الطيب" شيخ الأزهر: الساكت عن القتل، الساكت عن السحل، الساكت عن الغدر، الساكت عن اغتصاب الفتيات ..
يا أيها الشيخ الجليل: الشباب قتلوا في ميادين الحرية في 25 يناير وما بعدها غيلة وظلما وعدوانا ولم نر للدموع أثر في كلامك أو عينيك، ربما لأنك ترى فيمن خرج مطالبا بخبزه وحريته وكرامته "خارج" عن ولي الأمر يستحق القتل وإن كان الأخير طاغية وظالما ومستبدا ومواليا للصهاينة ومعاديا لبني وطنه، هكذا تعلمتم من فقهاء الاستقرار والتبرير الذين سودوا الصفحات، وسودوا عيشتنا بهراءهم الذي "أسلموه"، وفقهنوا به طغيان بني أمية وبني العباس رغما عن النصوص.
يا أيها الشيخ الجليل: الشباب قتلوا في الجامعات، في قاعات الدرس، لمجرد رفضهم الامتحان اعتراضا على اعتقال زملائهم، جرى ذلك في الكليات التي تدرس العلوم الشرعية، في جامعة الأزهر التي تسأل مستنكرا عن شيخها، ولم ير الطلاب الذي يعتقد أغلبهم في علمك منك رفضا، أو استنكارا، أو دمعة حرى.
يا أيها الشيخ الجليل: المنتقبات اللائي يأخذن عنك العلم، الأزهريات اللائي يدرسن في جامعات غير مختلطة لأن شيخهم الأجل حرم عليهن التعليم في جامعات مختلطة، الفضليات اللائي لم يشتركن في المظاهرات لأن المظاهرات حرام، كما أخبرتهن، اقتحموا عليهن الجامعة أهانوهن عاطلة في باطلة سحلوهن على الأرض وانهالوا عليهن ركلا وضربا، سحبوا واحدة لمزاج الباشا الضابط واغتصبها وهي المتزوجة في مدرعة الشرطة، وخرجت لتشكو واصفة ما حدث بتفاصيله ولم يسمع لك صوتا، لو كانوا بناتك لتفطر عليهن قلبك وخطابك ومنبرك، ولأقمت الدنيا ولم تقعدها، ولحركت علمك وفقهك ومروياتك ودنياك وآخرتك من أجلهن، لكنهن بكل أسف: بنات الناس.
يا أيها الشيخ الجليل: ما الفارق بينك وبين إبراهيم عيسى؟
يا قارئي الذي يحب الحويني ويعتقد في مشيخته: ما الفارق بين الحويني وإبراهيم عيسى؟
عيسى في نظرك متحرش بالتاريخ ..
والحويني في الحقيقة متحرش بالواقع ..
ما الدين إن لم يكن حياة الناس ومصالحهم وعلاقتهم بالسماء التي نكفل لهم سعادة الدارين، ما الدين إن لم يكن عصمة دماء الناس، وقدسيتها، ما الدين إن لم يكن كرامة الإنسان، وحقوقه العادلة، وما العالم إذا لم يكن مبشرا بهذا كله، حاميا لهذا كله، مستعدا لبذل حياته راضيا من أجل هذا كله؟
هذا واقع أليم يحاصرنا، حصاد سنوات حكم الطغاة البائسة، نخب فاسدة في السياسة، والإعلام، وأخرى لا تقل فسادا بين شيوخنا، وقساوستنا.
هذا الكلام ثقيل على القلب، أعرف، شيخك الذي كنت تظن فيه الخير، وتأخذ عنه دينك، وتثق في علمه، ونزاهته، يقيم الدنيا ويقعدها من أجل كلام مرسل، ولا تحركه دماء المسلمين والمسلمات وحقوقهم، هل للفساد معنى آخر؟
فساد العالم ليس بالضرورة فساد ولاءاته، أن يشتريه النظام فيصبح علي جمعة مثلا، أو أن يقدم خدماته المجانية للنظام فيصبح عمرو خالد مثلا، لا يا صديقي، الفساد في إحدى صوره أن تكون كلمة الحق التي يحملها الشيخ لمريديه مخلصا هي توافه الأمور وسفاسفها، ذلك لأنه لم يعتد سوى على ذلك، هذه بضاعته، وإن بدا عظيم الشأن، فإذا اختبر في موقف يتطلب عالم حقيقي، رجل حقيقي، لقيت هواء، غثاء، لا شيء.
سكوت العالم عن المنكر مصيبة لا تقل عن إرتكاب المنكر ذاته، وقديما قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ..
يا صاحبي: العلاقة بين العلماء والعامة ليست كعلاقة الله بعبيده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، بل هي علاقة تقويم ومتابعة وأخذ ورد، وطاعة العامة لعلمائهم ليست عمياء، فالإسلام لا يعرف الكهنوت، وأنا وأنت من حقنا أن نساءل شيوخنا، في حال اعترفنا بهم وبأهليتهم، ماذا لو رأيت شيخك يسرق، ماذا لو رأيته يزني، هل ستنكر ما رأته عيناك، هل ستسكت عنه وتداوم على متابعته بدعوى أنه أكثر منك علما ولا يجوز لك الاستدراك عليه، أو مناقشته أو التشكيك في نزاهته، وهل تحتاج السرقة إلى زيادة علم ليكون لك الحق في الاستدراك على السارق، لقد رأيناهم يشاركون في سفك الدماء بالسكوت والصياغات الملتوية التي توافق ضمنا دون أن تصرح لبعض حياء أوخجل من خزي وعار متحققين.
كفانا تقديسا في غير موضعه، ولنواجه أنفسنا بشجاعة، وإذا كنت ترى في إبراهيم عيسى قاتلا، ومحرضا، وفاسدا، ومتطاولا، وتافها وجاهلا، فأرجوك أجبني وأجب نفسك عن السؤال: ما الفارق "الجوهري" على مستوى الموقف بين الحويني وأشباهه وبين إبراهيم عيسى وأشباهه، كلاهما صنيعة نظام واحد، نظام فاسد مستبد لو رأى فيهم الخير ما منحهم فرصة الوصول إلى الناس، وما خلى بينهم وبين ذيوع الصيت والشهرة والمكانة، لقد ظهر هؤلاء على سطح الحياة في
مصر لأنهم بخطاباتهم المنعزلة حينا والمشوشة على الناس أحيانا كثيرة هم خير عون للحاكم الظالم، في الحكم بغير وجه حق، والنهب، والسلب، دون متابعة من الناس أو مساءلة، وكيف يسأل الناس عن حقوقهم وهم منشغلون بشؤون لحاهم عن شئون معاشهم ودنياهم التي هي أساس أمر آخرتهم ومآلاته، بمثل هؤلاء يثبت الطغاة عروشهم فوق قلوب الناس ولقمة عيشهم، لا حل سوى التطهير يا صديقي، تطهير عقولنا، وإيماننا، وثقتنا منهم، هؤلاء علماء سوء، مهما كثر الاتباع، وانتشرت الحكايات والأساطير بمحاسن زائفة، علينا أن نعترف بذلك فالواقع يطرحه دون مواربة، متى نفهم إن لم نفهم الآن، فنتجاوزهم غير خزايا ولا محزونين، وكما يقول المثل المصري: اعرف صاحبك وعلم عليه.