كتب حازم الأمين: انطلقت صواريخ كاتيوشا «سنّية» من منطقتي العرقوب وصور اللبنانيتين إلى شمال إسرائيل. صفق سنّة
لبنان لهذه الصواريخ، فيما ظهر مواطنون لبنانيون شيعة على محطات التلفزيون يُبدون تذمرهم منها، وقال الأستاذ الجامعي بشار حيدر إن هؤلاء ذكّروه بحال السكان الحدوديين (الشيعة) في السبعينيات والثمانينيات عندما كانت تنطلق صواريخ فلسطينية (سنّية) من فوق رؤوسهم، وكانت ردود الفعل لديهم في حينها تتمثل في قولهم إن هذه الصواريخ لن تُحرر فلسطين وعاقبتها وخيمة عليهم.
صواريخ هذا الأسبوع أطلقتها جماعات «سنّية»، وليس «
حزب الله». فقد ألقي القبض على مطلقيها، وهذا ما كشفته هوياتهم. والصواريخ شكلت تحدياً معنوياً لـ «حزب الله» مثلما شكلت تحدياً أمنياً للسلطات الأمنية اللبنانية، أما إسرائيل فتعرف أن تأثيرها منعدم، وأنها رسائل تتبادلها الطوائف اللبنانية.
يجب أن تنطلق الصواريخ. الصواريخ ذاتها التي اعتادت أن تنطلق منذ أكثر من أربعة عقود، لا يعقل هذه المرة ألا تنطلق. الكاتيوشا التي نادراً ما تصل إلى أهدافها. الصاروخ البدائي الهَرِم، والذي يُخلف انطلاقه صوتاً معدنياً، ويُخلف أيضاً رائحة كثيفة لاحتراق البارود الذي يدفعه بعيداً من فوق رؤوس السكان. وهذه المرة الشيعة كانوا منشغلين في القتال في سورية، فتولى سنّة من مواطنيهم المهمة. سنّة أرادوا أن يقولوا لـ «حزب الله» «نحن هنا» وهذه قضيتنا التي أوكلنا بها، وقد عادت إلينا!
لكن صواريخ «الإخوة السنّة» لم تُصب أهدافها على نحو ما تفعل صواريخ «حزب الله» عادة. خلفت الصوت المعدني ذاته، وقبل ذلك بثوانٍ قليلة كانت خلفت تلك الرائحة التي تُنذر السكان باقتراب الرد القاسي وبضرورة مغادرة المنازل إلى بلاد الله الواسعة.
لم أكن بلغت الخامسة حين شَممت رائحة الكاتيوشا، كان ذلك أوائل السبعينات. أطلق الفدائيون الكاتيوشا من تلة خلف قريتنا، وجاء أبو علي سائق التاكسي ليقلّنا في الليل إلى صور، تحسباً لرد فعل إسرائيلي. وما إن وصلنا إلى منحدر في آخر البلدة حتى قال أبو علي: «الصواريخ انطلقت من هنا... هل تشمون الرائحة». وبعد أربعة عقود على هذه الواقعة، ما زالت الرائحة في أنفي، تنبعث كلما انطلق كاتيوشا إلى خلف الحدود. وما زالت المعادلة هي ذاتها، فالصواريخ جزء من مشهد ثابت لم يتغيّر منذ 1970.
الكاتيوشا للجنوبي تشبه «جرن الكبة» في جبل لبنان. لها تقاليدها، ولها المواقع المناسبة لكي تنطلق منها إلى أهدافها. وهناك محترفو إطلاقها، ونكات وطُرف يرويها عامة الناس عنها. تلك التلة المشرفة على بلدتنا هي النقطة المناسبة لانطلاق الصواريخ، وحسن، الشاب الذي تدرب على إطلاقها على يد حركة «فتح»، عاد وانتقل لاحقاً إلى «حزب الله» واستمر في المهمة، ولا أستطيع أن أُقدِّر ما إذا كان سينتقل إلى تنظيم سنّي جديد بعدما استعاد السنّة هذه المهمة الأبدية. أما الطُرَف حول الكاتيوشا فيرويها السكان ممزوجة بحيرة كبيرة حيالها. فهي صاروخهم في النهاية، تماماً مثلما هو «جرن الكبة» بالنسبة إلى لبنان الخرافي الذي يتوهمه سكان جبله. لكن الكاتيوشا أيضاً نذير حرب وإسرائيل جارة قبيحة وقاسية ولطالما دمرت المنازل والقرى! «رجل يريد أن يعيد بناء منزله، فما كان منه إلا أن طلب من حسن (مُطلق الصواريخ والموازي لراجح في الرواية الرحبانية) أن يطلق صاروخاً من قرب المنزل لترد إسرائيل وتدمره، فنال الرجل تعويضاً لبناء بيت جديد». هذه واحدة من عشرات الطُرف الحدودية حول الكاتيوشا.
وإذا كانت الرواية الرحبانية عن راجح وعن جرن الكبة قد انقضت وأَفَلت، وما عادت فيروز تخاطب سوى وجدان غائر، بعدما وهَنَت الفكرة التي تأسس عليها لبنان، فإن الوظيفة السياسية لـ «جرن الكبة» الجنوبي ما زالت تشتغل، وما زال الكاتيوشا يُزغرد في وجدان كثيرين. وبما أن الكاتيوشا عنصر أنتروبولوجي حي وفعال، ما زال في الإمكان توظيفه كشعيرة في السجال الطائفي. فها هم السنّة يُعَيِّرون الشيعة به، تماماً مثلما عَيَّرت أمي ذات يوم جارتها الصيداوية (السنّية) به قائلة: «صواريخنا تعبر الحدود» ملمحة إلى مرحلة كانت فيها الكاتيوشا الفلسطينية (السنّية) تسقط في الأراضي اللبنانية قبل أن تصل إلى إسرائيل.
«حزب الله» غادر إلى سورية، وهو الآن يُقاتل بعيداً من السكان الجنوبيين. وحين يُسأل مجتمع الحزب والمجتمع الجنوبي الأوسع عن رأيه في قتال الحزب في سورية، لا يأخذ السائل في الاعتبار أن هناك في لاوعي الجنوبيين حقيقة جديدة تتمثل في أن القتال اليوم يجري بعيداً من بلادهم. السؤال عن أخلاقية القتال لا يوجه إلى وجدان جماعي، فالملائكة أفراد في النهاية، والمرارة الناجمة عن ابتعاد الحزب عن قتال إسرائيل يكابدها حالمون، لا سكان كابدوا منذ أربعة عقود وحتى الآن تسعة اجتياحات إسرائيلية وآلاف الغارات والقتلى. الأمر مختلف تماماً عن سؤال سكان الضاحية الجنوبية لبيروت الذين جرّ عليهم قتال «حزب الله» في سورية انتحاريين وإرهابيين وتفجيرات.
المصلحة المباشرة هنا تتقدم، وعلى هذا الأساس يجب قياس مفعول «الصواريخ السنّية»، ذاك أن كثيرين من أيتام «الوعي المقاوم» يتألمون اليوم من حقيقة أن صواريخ الكاتيوشا الجديدة لم تجد لها أماً، وأن يُتمها هذا مؤشر إلى أفولها، تماماً كما أَفل زمن «جرن الكبة» في جبل لبنان.
منذ 2006 لم يُطلق «حزب الله» صواريخ من جنوب لبنان، وهي الفترة الزمنية الأطول التي تشهد فيها المناطق الجنوبية استقراراً منذ 1973. كثيرون، من خصوم الحزب، باشروا، في موازاة الحملة الإسرائيلية على غزة، حملة إدانة لـ «حزب الله» على عدم فتحه الجبهة الجنوبية.
«حزب الله» يجب أن يُدان لمشاركته في القتال في سورية، أما أن يُدان بالتزامه بما كان يَطلبه منه مدينوه، فهذا ليس سوى غباء.
(الحياة اللندنية)