كتاب عربي 21

الانتخابات المخيفة: تونس 2014

1300x600
سيقترن شهر أكتوبر في تاريخ تونس القادم بتأسيس الديمقراطية فالقطار الإنتخابي  يتجه رأسا إلى محطته الأخيرة في أكتوبر 2014. بعد أن أسس للمسار في أكتوبر 2011. هذه من تلك ولكن كيف يبدو المشهد قبل أربعة أشهر من الموعد الحاسم والمخيف. الفاعلون مختلفون والتوجهات مختلفة  لكن الأغلبية  تظهر ميلا لقطف غنيمة انتخابية.

هيمنة الرئاسية

رغم أن الرئاسية  ستلي التشريعية التي لا تزال خارج النقاش إلى حد اللحظة، إلا أنه لا  حديث إلا عن الرئيس القادم فأغلب الشخصيات السياسية المعروفة أعلنت تقدمها وآخر من أعلن نواياه هو الشيخ عبد الفتاح مورو (02-07-) وهو قيادي مؤسس لحركة النهضة، وإن فقد مكانته الاعتبارية داخلها.. ويعود التركيز على منصب الرئيس في تقديري إلى سببين:الأول  طبيعة الشخصيات والثاني طبيعة المنصب أو تصور الشخصيات للمنصب ودوره.

الشخصيات الظاهرة (الشابي / بن جعفر/ مرزوقي /مورو/ الهمامي/الباجي) هي شخصيات مغرمة بذواتها  ومليئة بنرجسية  مفرطة وتعتقد أنها تمتلك الكاريزما الكافية لتتحول إلى قيادات تاريخية لبلد  وفي رأس كل واحد منهم يسكن بورقيبة صغير  يحلم بمشروع عظيم. 

قد يكون هذا المرض  هو مرض كل متصد للشأن العام باختلاف الدرجات وكلهم يعتقد أنه قادر على ما لم تأت به الأوائل. لذلك نراهم يتصيدون المنصب بكل التبريرات المتاحة. وكان هذا الضعف (الرغبة ) سبب رئيسي في قبولهم بتسريع المسار الاتخابي.

أما تصور هذه الشخصيات للمنصب ودوره فيكشف ما يعدون للبلد فلا أحد من هؤلاء باستثناء المرزوقي الذي لمح إلى برنامج من خطوط  عامة وغير دقيقة يتقدم الزعماء بلا برنامج لأنهم ينطلقون من نموذج زعيم يعرف كل شيء ولديه حل لكل المعضلات، ما دامت السلطة في اليد فالاجتهاد في اللحظة يمكن ترقيع الفراغات. 

الشخص الزعيم الفذ (المجاهد الأكبر) سيجد الحلول ضمن خطة وضع طربوش زيد على رأس عمرو . رؤساء بلا خطط لأنهم يعتمدون على القرار الفردي لا المؤسساتي إنهم يثبتون أن الذاكرة المشحونة بصورة الزعيم (الثقافة) أقوى من السياسة إنها حالة استبطان غريزي (حسي حركي) في زمن التفكير الاستراتيجي. 

وهنا مقتلهم جميعا ومقتل السياسة والديمقراطية فمن هذه الكاريزما المنفلتة (الباتولوجية) جاءت الدكتاتورية. كل المتقدمين الآن مشاريع دكتاتوريات مبتسمة في أول الحديث قبل وضع السلطة بأيديهم.

في المشهد الرئاسي  يغني الغنوشي على موجة غير موجة النرجسية ويفكر (من خلال تخليه عن الترشح والترشيح) من خارج المنظومة الزعامتية ويرمي إلى زعامة مختلفة. زعامة إعادة بناء المشروع الوطني بما يمسح آثار بورقيبة نفسه.

التشريعية الرهان الحقيقي

أهمية التشريعية تأتي من الدور الواسع الذي يحدده الدستور للحكومة التي منحها حق المبادرة التشريعية،  فالذي ينال الأغلبية يشكل الحكومة التي تضع القوانين بفعل كتلتها الغالبة وبالتالي يمكنها أن تخطط مستقبل البلد. ولكن رغم الأهمية يبدو كأن الفاعلين غير مهتمين، خاصة لجهة الإعراض عن  تحيين السجل الانتخابي .

وقد زاد الأمر بلبلة دعوات كثيرة للمقاطعة صدرت بالخصوص عن حزب التحرير الذي يبرز في المشهد بتناقض عجيب  فمن ناحية يرفض قوانين الدولة الوضعية ويحاربها ومن ناحية ينشط ضمن نطاقها القانوني بما يجعل دعوته للمقاطعة مشبوهة ومسترابة، وربما مدفوعة الأجر لتفريغ الساحة الإسلامية من ناخبيها المحتملين لصالح حزب النهضة. خاصة  وقد دأب الحزب على تصيد قواعد حزب النهضة واستقطابهم بدعوى مخالفة الحكم الوضعي للحكم الشرعي.

ويقال الأمر نفسه حول التربص السلفي المغرم بلق حالة توحش وإدارتها بكلفة من الدم. وما عودته إلى التفجير في جبال الشمال إلا بعض خطة لا تزال مفتوحة على تعطيل المسار الانتقالي السلمي. ويبدو حزب النهضة معنيا أكثر من غيره بالتشريعية وهو ما يكشف رهاناته في المدة المقبلة أي التغيير البطيء والمتدرج للبنية القانونية للدولة من داخلها(بالطبع إذا توفت له الكفاءات).

الفرق الآن (ربما يكون الفرق القادم والجوهري) إذن بين من يتكالب على القيادة الفوقية بمؤسسة الرئاسة وبين من يستعد للمؤسسات الدائمة  ليشتغل على تغيير طويل النفس. إنه فرق بين نموذجين وخطين في السياسة أحدهما صار الآن رجعيا وسقط بحكم تقدم العمل المؤسسي الشعبي والمدني (كل المترشحين عاشوا في ظل نموذج الزعيم الفرد ) والآخر يلتزم قواعد العمل الديمقراطي عبر الانتخابات والاقتراح والصراع الطويل النفس على التغيير السلمي .فضلا عما يخفيه له الدستور من قواعد الحكم المحلي (غير المركزي) .

رهانات الخارج

هذه الانتخابات لن تجري بمعزل عن التأثيرات الخارجية نصحا واقتراحا فهذه فترة يكثر فيها الناصحون. ولتونس ومرشحيها ناصحون كثر لذلك رأينا المتقدمين  يزورون أصدقاءهم  ويقدمون لهم  فروض الولاء أو الوعد بالولاء. فعلى من سيراهن  الخارج؟ مهما كانت نيته؟ على خط التغيير الفوقي أم على خط التغيير المؤسساتي الطويل النفس. لا شك أن الرئيس سيكون بوابة لكن بأية صلاحيات على الواقع اليومي؟ 

الرهان هنا سيكون عبر  شق عملية التغيير القادمة بدفع القوى القديمة التي ضمنت مصالح الخارج في الداخل إلى كسر نسق التغيير وحرفه عن المساس بتوازنات موروثة تجعل من البلد سوقا  تابعة للمصنع الغربي ومنتجعا للعامل الغربي يقضي به عطله. لقد عاش من هذه المنظومة التابعة كثيرون يهمهم أن يظل الوضع على ما هو عليه  لأنه يضمن مصلحتهم.

  الصراع الحقيقي في التشريعية وما بعدها سيكون هنا... إما أن تفرز الانتخابات اتجاها أغلبيا  للتغيير أو أن  تؤدي المقاطعة إلى حكومة بلا أغلبية تضطر إلى الشرعية التوافقية التي ستبتزها للحفاظ على مكاسب تاريخية للطبقة الغنية التابعة.

المقاطعة جريمة في حق الثورة

في ظل الرهانات على التغيير بوسيلة سليمة رافضة لكل أشكال العنف (لا أحد قادر عليه إلا أن يكون تخريبا لا يقيم بنيانا ولا يعمر أرضا على طريقة داعش) فإن المقاطعة  تعتبر جريمة  في حق المسار الثوري (السلمي ) والأدعى للسخرية هي الدعوة للمقاطعة باسم الثورية التي تعجز عن تنظيم مظاهرة بما يفسح لنهاية معروفة هي عودة المنظومة القديمة عبر شرعية الصندوق  فكل صوت منسحب سيفتح المجال للنظام السابق، بما يجعل أية حكومة منتسبة للثورة مرهونة له عبر تشكيل حكومة معه ومهادنته في ما يمس بمطالب التغيير ومطالبه. 

وأسوأ الاحتمالات هي أن يكون النظام القديم فائزا أولا بما يسمح له بتشكيل حكومته من فلوله المتناثرة  ويختم على كل أمل في التغيير السلمي وقطع الطريق بقوة القمع على استعادة الشارع لنفسه الحر فالنظام القديم عاش بقتل الحرية ويمكن لما تيسر منه أن يجهز عليه.