كتاب عربي 21

عندما تتلاقح التجارب بين تونس واليمن

1300x600
وجدت نفسي مؤخراً في ورشة نظمتها ببيروت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لجنوب غرب آسيا " اسكوا "، وجمعت كوكبة من الفاعلين بالساحة اليمنية من وزراء ونواب بالبرلمان وأعضاء بأحزاب مختلفة الى جانب نشطاء من المجتمع المدني.

الهدف من اللقاء هو استعراض ما حققه الحوار الوطني في هذا البلد الذي يمر بمرحلة انتقالية شديدة الصعوبة، ووذلك دعم المشاركين في هذا الحوار من أجل استكمال مشوارهم حتى يتغلبوا على المخاطر والتحديات التي لا تزال تهدد وحدة الدولة والمجتمع.

في هذا اللقاء طلب مني ومن الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل بتونس محمد المسلمي التعريف بالتجربة التي خاضتها النخبة التونسية في مجال إدارة حوار وطني، وهي التجربة التي أفضت الى إنقاذ المسار الانتقالي من نكسة كادت أن تكون محققة.

ولعل ذلك هو الذي دفع بالمنظمين الى الاستئناس بحالة تونس باعتبارها التجربة الوحيدة التي نجحت في العالم العربي، وخاصة بعد سلسلة الانتكاسات التي توالت في دول الربيع العربي، والتي كشفت عن إخفاق فادح للنخب في هذه الدول وعجزها عن تأمين الكوابح الضرورية التي من شأنها أن تحول دون دفع شعوبها نحو الانزلاق في طرق مسدودة مثلما هو الشأن في المثالين السوري والليبي.

بالنسبة لتونس لم يكن الحوار الوطني اختيارا استباقيا بادرت به النخب عن طواعية، وإنما كان اضطرارا فرضته الأزمة السياسية التي تصاعدت وتيرتها على اثر اغتيال الشهيد محمد البراهمي.

فهذه الحادثة قلبت المناخ رأسا على عقب، ووفرت فرصة لتشكيل جبهة واسعة ضد حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة التي بدا عليها الإرهاق نتيجة ضعف الأداء السياسي وتعقد الملف الاقتصادي والاجتماعي.

لم يكن هذا العامل الوحيد الذي فرض الجلوس على مائدة الحوار، وانما كان الى جانبه عوامل أخرى من بينها المخاطر الأمنية والضغط الدولي الناعم وتداعيات الأزمة المصرية على أطراف الصراع المحلي.  ليس المهم التوقف عند دوافع الحوار، وانما الأهم هو التوقف عند الأسباب التي ساعدت على نجاحه.

ويمكن أن نستعرض بعضها في نقاط مختصرة.اولا : لا ينجح الحوار في بلد ما الا إذا آمن الجميع أو الأقل الأطراف الأساسية في الصراع بأنه الآلية الوحيدة للخروج من الأزمة.

ثانيا : أهمية التسليم بضرورة الانتقال من الديمقراطية العددية الى الديمقراطية الوفاقية. وهذا بمثابة الدروس المستفاد الرئيسي من التجربة التونسية. لا يشك أحد موضوعي في ان حركة النهضة جعلت منها الانتخابات التأسيسية الحزب الأكبر في البلاد، وكان ذلك كافيا ليجعلها تتصرف وكأنها الحزب الحاكم والمهيمن في إدارة شؤون الدولة.

وما قامت به الحركة يعتبر من المنظور الديمقراطي أمرا مشروعا، لكنه على الصعيد العملي أدى الى قطيعة بينها وبين المعارضة، وأوقعها في مطبات كادت ان تؤدي الى تعطل المسار الانتقالي.

ولهذا كان من المهم أن تتفطن قيادة الحركة بأن البلاد تمر بمرحلة انتقالية، وبالتالي لا يصح إدارتها بمنطق الغلبة، وانما بنزعة وفاقية واسعة. وهو ما جعل الحوار ممكنا وناجعا.

ثالثا: نزول المجتمع المدني بقوة في تونس من خلال المنظمات الراعية للحوار بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يتمتع بحضور تاريخي واجتماعي كبير. وهو ما تفتقر اليه بقية الدول التي اندلعت بها حركات احتجاجية واسعة وذات عمق شعبي.

فالحوار يصبح ذا جدوى عندما تتوازن القوى، ويكون الراعي له فاعلا ومؤثرا في البلاد. فالمجتمع المدني في تونس ليس أمرا افتراضيا، بقدر ما هو واقع فعلي، تراكمت خبراته عبر التاريخ الى أن اصبح جزء لا يتجزأ من النسيج العام لتونس اليوم. 

رابعا: نجح الرباعي في تونس في وضع خارطة طريق ترتكز على مبادئ جامعة. وهذه مسألة على غاية من الأهمية. لأن الوسيط إذا بقي يتحرك في إطار مفاهيم عامة تعتمد فقط على حسن النوايا، فإن جهوده لن يكتب لها النجاح، في حين ان وضع خطوات عملية من شأنه أن يدفع الأطراف المتحاورة نحو إجراءات عملية ذات ضمانات قابلة للتنفيذ، حتى لو اعترتها بعض الصعوبات. 

خامسا : تميزت التجربة التونسية أيضاً بمتابعة من قبل الرأي العام لمجريات الحوار الوطني ونتائجه، رغم اهتزاز ثقة جزء واسع من التونسيين بنخبته السياسية. فضغط الشارع يمكن أن يشكل عاملا مساعدا قد يدفع بالأحزاب الى التخلي ولو مؤقتا عن مصالحها الحزبية من أجل تحقيق الحد الأدنى من المصالح الوطنية.  

كم هو مفيد حصول تلاحق الأفكار وتبادل الخبرات بين دول الربيع العربي في هذا التوقيت بالذات. لأن نجاح الحوار الوطني في اليمن سيشكل بالضرورة عامل دعم قوي لتونس التي ليس من مصلحتها أن تبقى وحيدة في محيط يشد الجميع الى الخلف.