قال الكاتب الإسرائيلي
جاكي خوري إن "
داعش"، كباقي المنظمات السنية المتطرفة في العراق، هي ثمرة فجة للسلوك الأمريكي المغلوط، الذي حطم الحكم ولكنه لم يعرف كيف يبني آخر بدلا منه. ويرى أن ما تقوم به داعش الآن يشفي شيئا من غليل أنصار نظام الراحل صدام حسين، بالانتقام من رئيس الوزراء
نوري المالكي "الشيعي، الوقح والمغرور".
وفي مقالته التي كتبها لصحيفة "هآرتس" الخميس، بعنوان "عاصفة في الصحراء" يرى خوري أن الناس في العراق الآن ينتظرون ليروا ما الذي سيحل بالمالكي، الذي يتعرض لضغط شديد للاستقالة، وإذا ما كان مقاتلو "داعش" سينجحون في السيطرة على المزيد من الأرض.
وفيما يلي نص المقال:
بينما كنا هنا في إسرائيل منشغلين في انتخاب رئيس جديد، كانت عيون العالم كله تتطلع إلى العراق.
موجة عنف، هي الأكثر حدة منذ سبع سنوات، ثارت هناك من جديد، وفي ذروتها نجح مقاتلو المنظمة السلفية المتماثلة مع القاعدة في دفع الجيش وقوات الشرطة إلى الفرار واحتلال محافظة نينوى في شمالي العراق، حيث المدينة الثانية في حجمها..
الموصل.
وأعلنت حكومة العراق عن حالة الطوارئ، وطلب رئيس البرلمان أسامة النجفي من العالم التعاطف. هذا يبدأ في الموصل، كما حذر، ولكنه قد يؤثر على المنطقة بأسرها. وبالفعل فإن الثوار لا يميلون إلى الراحة. فبعد سيطرتهم على الموصل، واصلوا نحو مدينتي كركوك وتكريت.
"ثلاث فرق عسكرية ترابط في نينوى" تعجب النجفي غاضبا. وتوجد أيضا قوة شرطة. وهم مزودون بالطائرات، وبالدبابات وبكل الوسائل. كيف تنهار هذه القوات أمام بضع مئات أو بضع آلاف من الإرهابيين؟
استمرت المعركة على مدينة الموصل أقل من أسبوع، ووصلت إلى ذروتها أول أمس بانتصار الثوار، من مقاتلي منظمة "الدولة الإسلامية في العراق والشام". واقتحم المسلحون السجن المركزي في المدينة وأطلقوا سراح 1,400 سجين. ودهش سكان الموصل لرؤية السجناء، يلبسون البزات الصفراء، يسيرون في الشوارع وكأنهم خرجوا في نزهة الصباح.
وسقط المطار الدولي -في المدينة هو أيضا- في أيدي المنظمة، وهرب بضعة آلاف من السكان من الموصل شمالا باتجاه الإقليم الكردي، وطلبت حكومة العراق من زعيم الإقليم، مسعود البرزاني، مساعدة الهاربين. ووضع برزاني جيشه البشمرغا، في حالة تأهب وأمر بإعداد فنادق وعيادات للاجئي الموصل. ولكن قلائل نسبيا وصلوا.
غنية ووحشية
في العالم الواسع يميلون إلى معرفة من هم "القاعدة"، ولكن لمنظمة "الدولة الإسلامية في العراق والشام" يوجد تميز وهدف خاص بها. هذا الفصيل الذي يسمى بالأحرف الأولى من أسمه "داعش" يعتبر اليوم المنظمة الجهادية الغنية والوحشية في العراق. وهي تضم بضعة آلاف من المقاتلين على الأقل، مزودين بالدافع الديني لإقامة دولة شريعة هناك، وبدعم مالي سخي. ورغم روح الجهاد التي تطغى على مقاتليها، فإن خلفية نشوئها ليست دينية على الإطلاق.
"داعش"، كباقي المنظمات السنية المتطرفة في العراق، هي ثمرة فجة للسلوك الأمريكي المغلوط، الذي حطم الحكم ولكنه لم يعرف كيف يبني آخر بدلا منه. ومقاتلو "داعش" هم ضباط وجنود سنة من جيش صدام، أو موظفون ألقي بهم إلى الكلاب من قبل الأمريكيين فور احتلال بغداد في نيسان 2003. الرجل رقم 2 في المنظمة، الذي قتل قبل أسبوع في اشتباك مع الجيش، هو نقيب سابق في جيش صدام. ويدعى عدن إسماعيل الببلاوي (39)، وقد عمل "وزيرا للحرب" في "داعش".
فرع آخر للمنظمة يعمل في سوريا ويزرع الموت والدمار في المناطق التي ليست تحت سيطرة الأسد. وكونهم سنة هو سبب وجيه بما يكفي لإثارة الكراهية ضدهم من جانب
الشيعة والأكراد، في سوريا والعراق معا.
من بين جملة المحافل الثائرة، فإن "داعش" هي المنظمة الأقوى في العراق اليوم. هدفهم الديني هو إقامة دولة شريعة، ولكنه هدفهم القومي لا يقل إثارة للاهتمام. ففي نيتهم تحرير المناطق السنية شمالي بغداد وإعادة النظام الذي كان متبعا في العراق في عهد حكم البعث إلى سابقه حتى ولو جزئيا. واليوم توجد في أيديهم أجزاء واسعة من مدينة الفلوجة، من محافظة الأنبار ومن مدينة سامراء، وكلها ذات أغلبية سنية. رمزهم هو العلم الأسود الذي يخط عليه بأحرف بيضاء: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
الجيش يفر حفاظا على روحه
قلة في العراق فوجئوا من هزيمة الجيش في المعركة على الموصل. فقواته هزيلة، غير مدربة كما ينبغي وتعاني من تنسيق عليل مع القيادات في بغداد. "المعلومات الاستخبارية التي تصل إليهم لا تستخدم على نحو سليم"، اشتكى الرئيس النجفي.
وحسب آخر المعلومات من بغداد، فقد تلقت المنظمة مساعدة كاملة من السكان في الموصل في أثناء احتلالها. أما الجيش العراقي الذي فر حفاظا على روحه، فترك في أيديهم دبابات ومجنزرات، وسائل قتالية لم تكن على الإطلاق في أيدي مقاتلي داعش.
عمليا، تقول المصادر في بغداد إن سكان المناطق السنية في شمال العراق أداروا ظهرهم إلى الحكومة المركزية، وهم يؤيدون حكم الفصائل السنية. من ناحيتهم، هذا تحرير وإعادة للنظام إلى سابق عهده، مثلما ساد في عهد صدام. وتشرح هذه الحقائق معدل الهرب المنخفض نسبيا من الموصل مع احتلالها. ألفان فقط فروا منها شمالا نحو المنطقة الكردية، غالبيتهم الساحقة من أبناء الأقلية المسيحية.
وهدد رئيس الوزراء، نوري المالكي كل جندي أو شرطي يهرب من أمام مقاتلي "داعش" بتقديمه إلى المحاكمة. وضع المالكي السياسي صعب، ويحتمل جدا أن يسرع سقوط الموصل من استقالته. فرئيس الحكومة العراقي يتولى منصبه منذ ثماني سنوات ولكنه نجح مؤخرا في أن يقيم عليه كل جيرانه تقريبا. فتأييده لسوريا الأسد زرع توترا شديدا في العلاقات بينه وبين السعودية وتركيا السنيتين؛ ولكن حتى أبناء طائفته، الشيعة، غير راضين من سياسته المستقلة بعد أن عمل على أن يبعد من مراكز القوة حلفاءهم الإيرانيين في بغداد.
وقد استهدفت دول وقوى عديدة جدا رأس المالكي (64) وهم يسعون إلى إفشاله. والآن، عندما تسقط المدينة الثانية في حجمها في الدولة في أيدي العدو السلفي، سيصعب على المالكي أن يؤدي مهامه كما ينبغي. وليس غريبا أن بورصة أسماء بغداد تعج بالحركة بالمرشحين للحلول محله. أحد أبرزهم هو أحمد شلبي، حبيب الغرب وصديق اليهودي.
إن حرب "داعش" ضد الحكومة هي بقدر كبير معركة باسم الأب: فمقاتلو المنظمة هم عمليا "أبناء صدام" الذين يثأرون على الإطاحة به وعلى عار الطائفة السنية. أحد مصادر الدخل الأساسية لهم هو عائلة صدام حسين ومقربيها. ولا سيما ابنة صدام، رغد، وصديقه من الطفولة، الذي أصبح شريكه في القيادة، عزت إبراهيم الدوري. وقد نجح هذان الاثنان في النجاة من حملة الصيد الأمريكية وهما يحوزان مليارات الدولارات من أموال العائلة. مصدر تمويل ثان لـ "داعش" هي أموال الخاوة التي يفرضها نشطاء المنظمة على المناطق التي يسيطرون عليها. كل دكان ومصلحة تجارية، أو موظف، يدفع لهم مبلغا شهريا ثابتا يبدأ بخمسين دولارا.
بغداد على بؤرة الاستهداف
حقيقة أن خلفاء صدام هم في معظمهم شيعة تضيف دافعا للصراع الدموي على الحكم. وخلافا لصدام، الذي أدار نمط حياة علمانيا، فإن الفصائل السلفية تبنوا أيضا نمط حياة ديني متزمت.
ورغم ذلك، فإن سكان المحافظات السنية مستعدون لأن يقبلوا إمرتهم، شريطة ألا يكونوا خاضعين لسيادة الحكم المركزي، ويمكن أن نحصل، هذه الأيام، على مؤشرات أخرى على هذه المواجهة في سوريا، وأيضا في لبنان.
ساحات أخرى يعتور فيها التوتر الإسلامي الداخلي هادئة نسبيا، ولكن يمكنها أن تثور في كل لحظة. البحرين، اليمن أو الكويت الصغيرة مثلا.
والآن ينتظر الناس في العراق ليروا إذا ما حلت علامتا الاستفهام الكبريان. الأولى تتعلق بمستقبل رئيس الوزراء المالكي، الذي يتعرض لضغط شديد للاستقالة، والمسألة الثانية الأكثر اشتعالا وأهمية هي هل سينجح مقاتلو "داعش" في أن يقضموا المزيد فالمزيد من لحم الجمهورية الجديدة. ابنة صدام ومقربه عزت الدوري يبتسمان بالتأكيد ولكنهما ليسا الوحيدين. في السعودية وفي تركيا أيضا، عدوتا الشيعة في العراق، يرتقبون تغيير الحكم في بغداد.
"لا ريب أن صدام حسين، الرئيس السابق للعراق، وأسامة بن لادن، الزعيم القتيل للقاعدة، يضحكان في قبريهما"، كتب المتعلق عبد الرحمن راشد في صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية. "فهما يهزآن من نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، المعروف بوقاحته وغروره". وقد سمح الصحفي السعودي القديم لنفسه بأن يتساءل إذا كانت بغداد هي التالية في الدور. وبالفعل، علم منذ أمس بأن قافلة الثوار سيطرت على مدنة بيجي، المعروفة بمصانع تكرير النفط فيها، على مسافة 200 كم من العاصمة، وهم يواصلون التحرك باتجاه بغداد.
"وسواء بقي المالكي في كرسي رئيس الوزراء أم لا"، أضاف راشد، "فإن المعركة ضد منظمات الإرهاب ستكون طويل وأليمة. عليه أن يعالج غضب المؤسسة المدنية والمؤسسة العسكرية، بما فيهما قادة القبائل في الأنبار ونينوى. وبدون تعاونهم، ستفشل الحرب ضد "داعش" وهم سيصلون إلى بغداد".