المشهد الانتخابي: لم يعد لدينا الخيار في التحليل السياسي أنه يمكن اقتطاع المشهد الانتخابي والوقوف عليه بشكل مستقل وكأن موسم
الانتخابات صار يستدعى عند اللزوم، وفى حالة الاستقطاب أصبحت الآلية الانتخابية جزءًا من الصراع السياسي، لا خروجاً من الأزمة بلوغاً لحل، فقد صارت الانتخابات الاستقطابية والاستبعادية والإقصائية جزءًا من المشكلة لا الحل، ومن هنا لا بد من النظر إلى عملية الانتخاب مرتبطة بثلاثية مهمة؛ الشعب والثورة والشباب.
بين شعب القوة وقوة الشعب: من قسم الشعب نصفين لم يكن يعرف أي الشعبين سينضم إليه: شعب جاد يواجه التحديات ويركب الصعاب وينشد الحرية والكرامة ويتحمل ويصبر من أجلهما، أم شعب عالة عجوز عاجز راقص ناقص، يخاف ولا يستحيي، ويطالب ولا يضحي. يبدو أن شعب الانقلاب يتراجع ليبقى منه بقية لا تسمن ولا تغني، إما هي ترقص وتغني، أو تنتظر فُتات القائد الملهم الذي لم ولن يأتيه الإلهام أبداً.
ضعف الحضور الشعبي: ليس محل اختلاف، لماذا؟ أو بأية أمارة؟ بأمارات كثيرة: نبرة الإعلام الانقلابي غير المهللة بثقة، غير المنفجرة فرحاً، لحن القول في خطاب المهللين الخالي من التهليل المنطلق، الوجوم، الحنق، التهتهة واللجلجة... في استديوهات إعلام الانقلاب، بأمارة ما أعلنته حملة حمدين (المدجنة حسب تعبير الاندبندنت البريطانية) من أن الإقبال أشبه العدم، بأمارة صراخ مذيعين في مراسليهم ومصوريهم أن يبحثوا عن لجان فيها ناس غير تلك الفارغة التي ملأت الشاشات في القنوات المختلفة، وصراخ بعضهم الآخر في الناس (انتم قاعدين ليه؟ انزلوا.. العدد ضعيف)، بأمارة ذريعة الظهيرة وحرها التي يبدو أنها أكلت اليوم الأول كله والتي تحجج بها الإعلاميون ليبرروا الصورة الباهتة لحضور العرس، بأمارة كبرى لا يماري فيها أحد: غياب
الشباب للمرة الثانية، وحضور العجائز والأعجاز.
الشعب الممتنع الممانع والمقاوم: الشعب الحقيقي الحر الكريم لم يحضر، وأعلن بكل وضوح عن غيابه من مدارس الانقلاب، وذلك مهما كتم الانقلاب وإعلامه هذه الحقيقة، لكن لا يهمنا ما يقولون، إنما يهمنا ما نرى، وما ندرك أنه حقيقة، ونعي أن لها أسبابها ودواعيها، ولها دلالاتها ومآلاتها ومراميها. وهذه واقعة لا تفوت هكذا. الشعب الذي بحضوره قامت ثورة يناير، هو الذي بغيابه اليوم يفضح
الثورة المضادة وأباطيلها وأساطيرها. إذا كان الانقلاب وقائده قد جاء ليقضي على ثورة الشعب ثورة يناير العظيمة، فقد جاء الشعب اليوم وعزوفه عن حضور مجلس الزور والإدلاء بشهادة الزور ليقضي على ثورة الانقلاب، ثورة يونيو المزعومة. يجب ألا يمر هذا اليوم هكذا، بل يجب أن نقف أمام دلالة هذا الامتناع والتمنع كحالة احتجاجية مقاومة بروية وعناية لنتدبر هذا الموقف لنحيله صناعة المناعة؛ "مناعة ضد الاستبداد".
هل تعود الحاضنة الشعبية من جديد لثورة الشباب؟، عودة الثقة بين الشعب والشباب ممكنة وقريبة إذا بذل فيها الجهد الكافي. ومهما أعلن الانقلاب ولجنة انتخاباته المعينة، وتظاهر إعلامه وسحرته بأن حبالهم وعصيهم حيات تسعى، فسوف تثبت الأيام القليلة الماضية تراجع أعداد الراقصين والراقصات، ولاحسي البيادات، والانتخابات الراقصة لا تبني وطن ولكنها مظاهر خادعة مخادعة. فمن المهم أن يمارس الشباب الثورة وينتج خطاباً يُلمِس مع عموم الناس ويعايش همومهم ويقترح من الآليات لمواجهتها، ويتبنى الانخراط والانغماس في أحوالهم.
الحاضر الأكبر في "المشهد الانتخابي المعسكر" كان الجيش: مشيراً ووزيراً، وجنوداً ودبابات، وطائرات تجوب سماء البلاد بصوتها الذي ملأ صناديق الخوف. لقد صوتت الطائرات اليوم في صناديق سماء الوطن لتعلن أنها الأعلى صوتاً وسوطاً، كما صوتت من قبل وعبر سنة كاملة أسلحة الجيش والشرطة في صناديق صدور الشباب والبنات، كما صوت القضاء على حبس الشباب في صناديق الاعتقال والتنكيل. خطة المؤسسة العسكرية "الدولة فوق الدولة"، تحول مرشح الجيش بفعل أعمال مخابراتية إلى "الزعيم المنقذ". ولكن الحاضر العسكري غيب الحاضن الشعبي وإن ادعى تأمينه، كما غيب من قبل الظهير الشبابي الواعد بعدما زعم تمكينه. الحاضر العسكري يعلن عن تأمين نفسه بهذه الانتخابات ثم تمكين نفسه أكثر بآخر المسرحيات. لقد كانت مسرحية ومسرح عمليات عسكرية بجدارة، أدارها العسكر والدولة العميقة ومحاسيبهم أسوأ إدارة.
الانقلاب ضد الانتخاب: الانتخاب اختيار والانقلاب ضرار، الانتخاب قرار شعب متسيد والانقلاب قرار فرد مستبد متفرد، الانتخاب حرية واصطفاء والانقلاب تقييد وإملاء.. لا انتخاب في ظل الانقلاب. وإذا كان الانقلاب قد جمع المتناقضات السلبية في هذا الوطن: المتسلفة المغلقة مع الطائفية النزقة، والثورية الزائفة مع الفلولية المنافقة، والمدنية المدعاة مع العسكرية المستدعاة، والوطنية مع التبعية، وثرثرة المواطنة مع بلية الإقصاء، والقتل مع الرقص، فإن عملية الانتخاب الحرة النزيهة الشفافة التنافسية التعددية الحيادية.. ضد كل ذلك، ولا تجتمع مع الحالة الانقلابية بحال.
الانتخابات الزائفة والمزورة يمكن أن تكون فاتحة ثورة: جاءت انتخابات 2010 لتسرع من معدل الحراك السياسي باتجاه ثورة يناير، أشهر قليلة وكان المسرح والمسرحية ينقلبان على اللاعب المتلاعب المستخف بالشعب. لا نستبعد أن يكون هذا المشهد – وفي ظل بشائر الاصطفاف - مفتتحاً لنضال سياسي ثوري متصاعد حتى يكسر الانقلاب. (سيبوهم يتسلوا) قالها مبارك فارتدت عليه، (ومافيش.. انتم عاوزين تموتونا عاوزين تكلوا
مصر..)، هي القائمة، وعاقبتها هي القادمة.
الفشل هو حقيقة ما تم يوم 26/5 باسم (انتخابات رئاسة الدم). لم تغسل يداً من دم، ولا أنست الأحرار شبابهم وإخوانهم في الوطن المغيبين وراء أسوار الظلم، ولا تحركت بالوطن قيد قدم، ولن يعقبها سوى مزيد من الخسران للانقلاب والندم لما شايعه وتابعه ولكن ربما حين لا ينفع الندم.
وجها لوجه..الثورة في وجه الثورة المضادة والانقلاب: والشعب في وجه من وعده كذباً وزيفاً بمصر أم الدنيا والحنو عليه، والاستقلال الحضاري في مواجهة محاولات الماكرين ثم إعادة مصر إلى الحظيرة الأمريكية العطنة. لا نريدها صراع أجيال، بقدر ما هي تسليم وتسلم لقيادة وطن. لا نريدها غناء ورقصا على أشلاء وطن ودماء مواطنيه، بل نريدها نضالا وكفاحا لاستعادة الوطن والمواطنة والجماعة الوطنية التي تستوعب الجميع. سيحاول الانقلاب أن يثبت مزيداً من مهابة سقطت ونزفت وما زالت تنزف، سيجرب مزيداً من القمع ليرى أثر هذه الانتخابات الهزلية وهل أكلت من صمودنا أم لا؟، سيحاول أن يلقي بقنابل الدخان المسيلة لدموع الطامعين في إنجاز، ليؤكد تأجيله أية استحقاقات اقتصادية أو اجتماعية، ولكن هيهات أن تصدقه البطون الخاوية، والأيادي المتبطلة الخالية. سيحاول عمل مظاهرة خارجية بمعونة إقليمية وغربية وكأنه استرد شرف الشرعية من الخارج، ولكن مرة أخرى: الكلمة للوطن من داخله، والصك الخارجى لن يجدى فتيلاً مع ثورة شعب.
الثورة مستمرة والمشهد يؤكد ذلك.
والشباب عمادها والمشهد الانتخابي يؤكد ذلك.
ما حدث اليوم كما قال شاعر الثورة عبد الرحمن يوسف: "هذا الجيل قال رأيه في وجه انتخابات ليس فيها من الانتخابات إلا الشكل!، قال الشباب كلمتهم واضحة:اذهبوا بانتخاباتكم... ونحن مستمرون في تحرير ?مصر?? من عهد الطغيان..إنها الثورة، لجان الانتخابات للعجائز ومصر غداً لشباب ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة".