كثر الجدل خلال الأيام الأخيرة حول احتمال عودة الحزب الحاكم السابق إلى الساحة السياسية تمهيدا لإمكانية استرجاع نفوذه وسلطته اللذين افتقدهما إثر الثورة، وهو الحزب المعروف باسم "
التجمع الدستوري الديمقراطي". فهل تملك هذه الفرضية رصيدا حقيقيا من الواقعية بعد كل التغييرات التي حصلت في تونس طيلة السنوات الثلاثة الأخيرة؟.
لم ينشأ هذا الجدل من فراغ. إذ بالرغم من أن الحديث حول هذه المسألة يعود إلى فترة طويلة، لكن المؤكد أن " التجمع " كحزب قد وقع حله بحكم قضائي نهائي وفي أجواء احتفالية بلغت حد ذبح خروف أمام قصر العدالة، وبالتالي لم يعد من الوارد أن يبعث هذا الحزب من جديد على صيغته السابقة، لكن ما حدث في الأسابيع الأخيرة هو الذي يفسر عودة الجدل بقوة وبنبرة عالية في الوسطين الإعلامي والحزبي.
لقد فوجئ التونسيون وهم يشاهدون نشرات الأخبار ويتابعون الحوارات السياسية في وسائل الإعلام بظهور رموز من النظام السابق يدلون بتصريحات علنية ويدافعون بقوة عن مواقفهم، وذلك بعد أن خرج بعضهم من السجون، وتوارى الكثير منهم بعد الثورة. ولم يكتف هؤلاء بذلك، وإنما قاموا بتمجيد مرحلة حكم الرئيس السابق زين العابدين
بن علي، ووصفوها بالإيجابية وبمرحلة الإنجازات.
كما زعموا بأن حزبهم السابق لا يتحمل ما قام به بن علي بمفرده، ورفضوا القيام بممارسة النقد الذاتي في حده الأدنى لتجربتهم السابقة في
الحكم، والتي أدت إلى الثورة عليهم. بل أقدموا على العكس عندما قاموا بتلميع صورتهم، وبلغ بهم الأمر إلى حد الإدعاء بأن التجمعيين "نسبة إلى حزب التجمع" قد شاركوا في الثورة مع بقية التونسيين؟!..
عندما غادر بن علي البلاد في مساء يوم الرابع عشر من شهر يناير 2011، انقسمت كوادر الحزب الحاكم السابق إلى ثلاثة مواقف متباينة:
-هناك من قرر الانسحاب نهائيا من الحياة السياسية، حيث اعتقد هؤلاء بأن اللعبة قد انتهت، وأن السلطة تداول بين الناس، وأنه من العبث والخطأ الاستمرار في نفس الطريق ، فإعادة أدوار قديمة لم يعد من ورائها جدوى.
-ثانيا: هناك قسم آخر قرر البحث عن مواقع داخل الأحزاب القوية أو الصاعدة بما في ذلك حركة النهضة، التي فتحت أبوابها لجزء من هؤلاء، وبررت ذلك بالقول أن هناك تجمعيون "نظاف" اضطروا للعمل مع النظام السابق مقابل آخرين تورطوا في الظلم والفساد.
-الفريق الثالث أصر على مواصلة العمل السياسي بشكل مباشر، وقرر هؤلاء تشكيل أحزاب وصفت بكونها "دستورية" وذلك نسبة لحزب الدستور الذي أسسه الحبيب بورقيبة.
ويكفي الإشارة في هذا السياق أن الدستوريين توزعوا على حوالي ستين مجموعة، وأن جهودا تبذل حاليا من أجل تجميعهم في فصيل واحد. لكن هل يمكن الآن منعهم من العمل السياسي والحزبي بحجة أنهم يشكلون خطرا على الثورة؟.
من المؤكد اليوم أن الدعوة إلى إقصائهم قد تراجعت حتى في صفوف الذين كانوا يطالبون بمحاكمتهم.
لقد أصبحت مثل هذه الدعوة ضعيفة ومستبعدة. وإذ عاد الجدل حول إمكانية إدراج الفصل 15 إلى المجلة الانتخابية الجديدة، وهو الفصل الذي تم بموجبه منع المسؤولين السابقين من حقهم في الترشح في الانتخابات السابقة. لكن الأطراف الرئيسية في المجلس التأسيسي ليست مع قانون العزل السياسي، خاصة بعد أن أصبح يتناقض مع روح الدستور الجديد، الذي منح جميع التونسيين الحق في الانتخاب والترشح.
لقد أصبحت الغالبية تميل اليوم إلى التوجه نحو المنافسة الحرة. أي الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في انتخابات نزيهة وديمقراطية. وبالرغم من أن أصواتا عديدة لا تزال تحذر من قوى الثورة المضادة، التي يقودها حسب اعتقاد هؤلاء أنصار الحزب الحاكم المنحل إلى جانب كل الذين تضرروا من زعزعة النظام القديم، إلا أن المناخ الخام قد تغير عما كان عليه في الأسابيع الأولى للتغيير الفجائي الذي عصف بميزان القوى السابق.
يتجه المشهد السياسي في تونس نحو تنافس مفتوح بين أربعة عائلات سياسية من أجل الظفر بموقع داخل السلطة في مرحلة ما بعد الانتخابات القادمة التي لم يحدد تاريخها حتى الآن.
هذه الأطراف هي العائلة الإسلامية التي تتزعمها حركة النهضة، إلى جانب العائلة اليسارية التي نجحت حتى الآن في حماية مكوناتها ضمن "الجبهة الشعبية" التي تضم ماركسيين وقوميين ناصريين وبعثيين. أما المجموعة الثالثة فهي العائلة الليبرالية التي تجمع أحزابا متفاوتة ذات توجهات ديمقراطية، وأخيرا العائلة الدستورية التي تشمل كل الذين عملوا في عهدي بورقيبة وبن علي.
أما الرهان حاليا فيتمثل في من سيكون الأقدر على تشكيل خلطة يغلب فيها لونا على حساب ألوان أخرى، لأن عهد السيطرة الشاملة لحزب على البقية قد ولى وانتهى. لكن المؤكد أن
رفاق بن علي يسعون بكل قوة لكسب ثقة التونسيين من خلال الاستفادة من أخطاء الحكام الجدد.