مشهد لم يألفه
التونسيون في تاريخهم القديم والحديث. سبعة من شبابهم، كانوا مختبئين في منزل قريب من وسط العاصمة، تم تطويقه من قبل الوحدات الأمنية، وبعد ساعات طويلة استنفدت خلالها كل الوسائل لمحاولة إقناعهم بالاستسلام، إلا أنهم رفضوا ذلك، واتصلوا بأسرهم عبر هواتفهم طالبين منهم الاعتذار، ثم حاولوا مهاجمة الشرطة وهم حاملين أسلحة وألغام إلى جانب أحزمة ناسفة. وهكذا ماتوا وهم يظنون بأنهم بذلك يرسمون لأتباعهم طريق "الانتصار" لمشروعهم.
لم تكن هذه الحادثة مجرد "مسرحية" كما حاول البعض أن يروجه. إنها حادثة حقيقية تمت وقائعها بضاحية "رواد"، وفي حي يجمع بين فقراء وأبناء الطبقة الوسطى، أبطالها شبان ينتمون إلى الجناح المسلح التابع لجماعة "
أنصار الشريعة"، وأحدهم كمال القضقاضي الملاحق بتهمة اغتيال شكري بلعيد زعيم "الجبهة الشعبية" التي تضم فصائل يسارية وقومية
لأن التونسيين ليست لديهم خبرة في مجال مقاومة "
الإرهاب"، ولم يدركوا بعد خطورة هذه الظاهرة رغم الملاحقات والمداهمات وتبادل إطلاق النار بين فينة وأخرى واكتشاف مخازن أسلحة وسقوط جرحى وقتلى، فقد تباينت آراؤهم حول هذا الموضوع، وهو ما عكسه الإعلام المحلي بكل وضوح
هناك ثلاثة مظاهر خطيرة يمكن رصدها بدون عناء:
أ. وجود سياسيين ومثقفين وإعلاميين وجزء من المواطنين يشككون في الوقائع وفي الأجهزة الأمنية. وهي مسألة خطيرة، ولها أبعاد وتداعيات لا يمكن تقدير حجم الخسائر التي قد تنجر عنها. على سبيل المثال، قيل بأن مقتل هؤلاء السبعة قد تم بشكل مقصود من أجل دفن حقائق كثيرة معهم يخشى من أن الكشف عنها قد يورط سياسيين من بينهم مسؤولون سابقون في الحكومة ينتمون إلى حركة النهضة. بل ذهب البعض إلى اعتبار أن توقيت هذه العملية لم يكن بريئا، وإنما جاء بهدف التشويش على الذكرى الأولى لاغتيال الشهيد شكري بلعيد.
ب. نزوع البعض نحو إضفاء صفات إيجابية على العناصر المسلحة التي تم قتلها، حيث قام أحد شيوخ التيار السلفي في برنامج تلفزيوني بوصف المتهم بقتل بلعيد بقوله "أحسبه عند الله شهيدا"، وهو ما أثار غضب قطاع واسع من النخب والنقابات الأمنية، ودفع بالهيئة المستقلة للقطاع السمعي البصري إلى دعوة منشط البرنامج ووجهت له نقدا شديدا، وألزمته بتقديم الاعتذار.
ج. ضعف تحليل بنية الإرهاب وطبيعته، إذ يغلب على المواقف والتحاليل فصل الظاهرة عن جذورها الفكرية والاجتماعية. وكأن الفرع يمكن أن يكون مفصولا عن الأصل. إذ لا توجد عناية جدية بتحليل بنية الخطاب الديني الذي راج بعد الثورة، واتسم بالتوتر والشحن الأيديولوجي، وطغى عليه أحيانا النزوع نحو إقصاء الخصوم وتكفيرهم، بشكل أدى في الأخير ببعض حاملي هذا الفكر إلى درجة الإفتاء بالقتل، وقيام البعض بتنفيذ ذلك من خلال اغتيال معارضين بارزين. أي أن الانحراف الفكري أدى في النهاية إلى التورط في الفتنة.
السؤال المحير حاليا في تونس يتعلق بمستقبل الظاهرة الإرهابية. هل لديها مقومات البقاء والاستمرار والتوسع؟
إذا استعرضنا المشهد الراهن، نلاحظ ما يلي:
أولا: تعددت خسائر جماعة "أنصار الشريعة" بشكل سريع خلال الأشهر الأخيرة. لقد تجاوزت الاعتقالات في صفوفهم 450 موقوف حسبما أكده وزير الداخلية. كما تم قتل أو اعتقال العديد من أبرز كوادرهم الذين تم تدريبهم بشكل جيد، سواء داخل تونس أو خارجها (ليبيا وسوريا وساحات أخرى).
ثانيا: تمكن الأجهزة الاستخباراتية من اكتشاف مخابئ الكثير من الخلايا النائمة، وإحباط العشرات من العمليات المبرمجة مما حجم كثيرا من قوة التنظيم، وجعله شبه عاجز عن تحقيق أهدافه.
ثالثا: عدم تمكن هذه الجماعة من كسب التونسيين لصفها. إن الجماعات المسلحة لا تستطيع أن تستمر إلا بقدر نجاحها في تأسيس حزام مجتمعي يحميها ويغذيها بالمقاتلين ويدعمها بالمال ويدافع عنها. أما عندما تخفق في ذلك، وتجد نفسها معزولة على الصعيد الجماهيري، ولا تلقى من يحميها، فإنها قد تستمر بفضل الدعم الخارجي الذي توفره الجماعات التي تشاركها العقيدة والخيار المسلح، أو قد تجد مخابرات لدول لها حساباتها ومصالحها، لكن ذلك لن يوفر لها العمق الشعبي الذي تحتاجه لإضفاء الشرعية على وجودها.
بناء على ما تقدم، فإن الخلايا النائمة لا تزال موجودة، وقد تشهد تونس في الفترات القليلة القادمة عمليات مؤلمة، خاصة مع التحالف القائم بين المسلحين التونسيين وتنظيمات جزائرية تولت القيادة في أكثر من موقع، لكن ذلك قد يدفع بهؤلاء الشباب المغامر إلى اللجوء -في لحظة الإحساس بالدوران في حلقة مغلقة لا تنتج إلا عنفا أعمى لا أفق له ولا جدوى منه- إلى نوع من وقفة تأمل لتقييم حصاد اختيار خاطئ. فهل يتكرر في تونس ما حصل في دول أخرى عندما أقدم البعض على مراجعات غيرت مجرى حياتهم، وضيقت من فرص الاستمرار في إضعاف الوطن وتهديد الأمن القومي؟