لا ينبغي أن يكون قرار محكمة
مصرية بحظر حركة
حماس؛ صادمًا أو مستغربًا، فالصدمة من هكذا قرار تنم عن مثالية غير واعية بطبيعة الدولة المصرية وأجهزتها وارتباطاتها، وهذه المثالية في فهم واقعنا العربي، اختزلت المشكلة كلها خلال العقود الماضية في شخص الحاكم، أو بعض رموز حكمه، على نحو منح البراءة للدولة وجيشها وأجهزتها، وحال دون رؤية الأزمة الأخلاقية الكامنة في القوى الحزبية والتيارات الأيديولوجية في العالم العربي، وبالتالي كان ذلك التصور الحالم بإمكان التحول الديمقراطي السريع والسهل.
ولما لم يحصل هذا التحول باليسر المتخيل، ولأن التصورات في أساسها خاطئة فإن تفسير ما جرى في مصر كان جدًا قاصرا وخاطئا حينما اقتصر على تناول أداء
الإخوان المسلمين أو عجز القوى عن إحراز التوافق، بلا أي محاولة لفهم هذه الدولة ومصالحها وموقعها داخل المنظومة الاستعمارية، وعدم قدرتها هي والطبقة المنتفعة منها على احتمال تحول ديمقراطي حقيقي.
إن نزعة التفاؤل بإمكان إنجاز تحولات كبيرة وسريعة ودون دفع أثمان باهظة في نفس الوقت، هيمنت على كامل الجمهور العربي تقريبًا من عامته إلى مثقفيه، خاصة وأن سقوط كل من بن علي ومبارك كان سريعًا وبتكلفة محدودة حتى حينه، ولأن المشكلة كانت تختزل في شخوص الحكام، فقد تصور الجميع أن المشكلة قد حلت، ولم يبق إلا أن نشرع في بناء نهضتنا من جديد، وقد كانت حماس كحركة مقاومة، من بين الجميع الذي تفاءل بإمكان حصول التحول السريع، والاستناد إلى قوى جديدة أقرب أيديولوجيًا إليها من بعد خلافها مع حلفائها السابقين.
لا يمكن ألا تؤخذ الحالة العربية العامة، التي اكتسحها التفاؤل، بعين الاعتبار في تفسير سياسات حماس من التحولات العربية التي تلت سقوط مبارك، غير أن المفترض من حماس أن تتفوق على الجميع، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، في توقع الاحتمالات، ورسم السياسات المستجيبة للواقع المستجد من حيث أنها تحولات ستأخذ أوقاتا طويلة، وستحصل فيها ارتدادات قاسية ومتوقعة، وأن النخبة المصرية لن تتخلى عن مصالحها وسياساتها القديمة بمجرد تغير شخص الحاكم، وقد خبرت الحركة قبل ذلك هذه النخبة بشكل جيد، وذلك كاستفادة من موقعها كحركة مقاومة في صراع مفتوح على كل الاحتمالات، ويجد العدو فيه نفسه مهددا وجوديا بصورة دائمة، ويستند فيه من جملة ما يستند إليه، إلى المنظومة الإقليمية العربية، وعلى هذا فإن الدرس المستفاد أولاً من تجربة الانقلاب التخلص من المثالية التي عجزت عن رؤية المجتمعات والقوى والدولة وأجهزتها كما هي بصورة حقيقية.
ولا يفترض في هذا الإجراء، بحظر حماس داخل مصر من قبل محكمة مصرية، أن يكون صادما، أيضا لأنه مسبوق بما هو أكبر جرما منه، من إحكام للحصار على غزة، والتعامل مع الحركة كعدو من الناحية العملية، وتعزيز الدعاية التحريضية ضد الحركة، واتهامها رسميا بالتورط في الأحداث الأمنية الجارية، والتهديد بإسقاطها عسكريًا، وانكشاف التآمر عليها استخباراتيًا، وهو الأمر الذي يضع الانقلاب داخل سياق أوسع من مجرد طبيعة الدولة المصرية ونخبتها المستفيدة، إلى سياق إقليمي ودولي يهدف إلى تصفية المقاومة في الأمة، وتصفية القضية الفلسطينية.
اتخذت بعض القوى الفلسطينية والعربية، مواقف موغلة في الانتهازية من هذا الانقلاب، إما بدعمه، أو بالسكوت والوقوف على الحياد، ظنًا منها أن هذا الانقلاب يستهدف جماعة الإخوان المسلمين وحماس، وحسب، في تفسير خاطئ أنجبته الأنانيات الرخيصة والأمراض النفسية المستعصية.
في هذه الحالة سوف نجد طيفًا واسعًا من المتآمرين على المقاومة والقضية الفلسطينية، يشمل للمفارقة مقاومين يتآمرون على أنفسهم بالقدر الذي يتوهمون فيه أن سكوتهم، أو دعمهم للانقلاب؛ لن يتأثر به إلا الإخوان وحماس، أو يدكون أن تصفية حساباتهم السياسية والأيديولوجية مع هذه الحركة مقدم على مصلحة المقاومة والقضية الفلسطينية، وحتما فإن هذا الطيف يتقدمه النظام الانقلابي وأنظمة الحكم التي تدعمه عربيا، والقوى والأحزاب السياسية التي تبحث عن مصالحها الخاصة على حساب الأمة، أو تنسجم مع مشاعرها المترعة بالحقد تجاه الإخوان وحماس.
وبهذا تصطف الأودات الاستعمارية التقليدية من أنظمة حكم وجيوش وأجهزة أمنية وإعلامية ونخب اقتصادية، إلى جانب قوى حزبية وأيديولوجية، بعضها يرفع الشعارات المناهضة للاستعمار، في خدمة الاستعمار؛ باتخاذ مواقف داعمة للانقلاب، أو محايدة تجاهه، بالرغم من تآمره الواضح على المقاومة، وموقعه الظاهر في المنظومة الإقليمية الرجعية والمعادية لتطلعاتنا التحررية، مهما كانت دوافع هذه القوى، وحتى لو كانت تنطلق من حسابات خاصة بها ليس منها الرغبة في خدمة الاستعمار، فإنها في النهاية تساهم في خذلان المقاومة، والتآمر على القضية الفلسطينية، والتغطية على المقاصد الحقيقية للانقلاب وداعميه، وبهذا يتضح من أين يستفيد الاستعمار قوته في فرض هيمنته على مستعمراته السابقة، إنها ليست قوة مجردة في ذاتها، بل هي قوة لا تكتسب فاعليتها إلا بأدواتها الواعية وغير الواعية في بلادنا.
حينما يكون الأمر على هذه الدرجة من الخطورة، التي تتهدد المقاومة في فلسطين، فإنه لا مجال لمواقف الحياد والوسط، وكل هذه المواقف بكل تبريراتها المتذرعة بالواقعية لن تتجاوز قدرها في أنها رخيصة وانتهازية إلى درجة استباحة الأمة في نهضتها وتحررها، والمقاومة في وجودها.
إن الاستفادة الأخرى من تجربة الانقلاب تقضي بضرورة فضح المتآمرين كلهم، من داعمي الانقلاب أو الساكتين على جرائمه، أو المذبذبين إليه، الممتنعين عن الأخذ على يد الظالم بل والممالئين له، ممن يقدمون مصالحهم الرخيصة على حساب الأمة في وجودها وقوتها وتحررها، ويجيزون لأنفسهم بدافع من الخصومة السياسية أو الأيديولوجية اقتراف هذه الجريمة، من بعد انكشاف الظاهر عن الباطن القميء، وحصول هذا القدر العالي من الانكشاف والتمايز، بحيث لم يعد جائزا تضييع هذا الفرز الذي تفضل به علينا الانقلاب!