لم تكن المنظومة الإقليمية في
يناير 2011 مهيأة لمواجهة الشعوب. ويتضح من المسار الزمني للأحداث ارتباك الأنظمة في التعامل مع الهبات الأولى للربيع العربي كتونس ومصر، ثم تحولت ليبيا لمسار مسلح وكذلك سوريا؛ بينما غرقت اليمن في الحلول الوسط تحت مظلة توازن القوى، وبذلك يتضح أنه مع الزمن استوعبت الأنظمة ما يحدث واستطاعت استحداث نماذج مواجهة لمثل تلك الهبات والانتفاضات، مما استدعى تعاونا إقليميا بقيادة أبوظبي والرياض ويضم الأردن والكويت لمواجهة وإجهاض تلك الانتفاضات، كما لم تنقطع عمليات التنسيق مع إسرائيل باعتراف مسؤولي تل أبيب المتكرر .
وظل المشهد يسير باتجاه عكسي، حتى وصلنا إلى 2014 وقد استوعبت الأنظمة كافة عناوين الطرف الآخر وقسمته وفتته و جزأته، وقد تعلمت أجهزة الأمن معارك "الفيسبوك" و "تويتر" واحترفت عمليات اختراق رموزه؛ ولا أقصد هنا الاختراق الالكتروني بل عمليات التجنيد والتوجيه لرموز مؤثرة وصناعة أخرى، و أصبحت أدوات الشباب في يناير 2011 هي ذاتها أحد أهم أدوات النظام لاحقا في توجيه العقول وإسقاط الخصوم، وبينما كان تلعب "
الثورة" كالهواة، لعبت الأنظمة باحترافية مستغلة نشوة النصر وسكرة الزهو والانشغال بتقسيم الكعكة.
كان الرأي العام في 2011 وموقفه من مبارك وآلة القمع التي طالت الجميع وحالة التوق للحريـة واليوتوبيا السياسية من أكبر عوامل الإرباك لنظام مبارك مما حد من جرأته في المواجهة، حيث كان الرأي العام يحمل شبه إجماع على كون هذا الرجل وولده وفريقهم هم أساس الفساد وأصله وكذلك كان لانتخابات 2010 وما حدث فيها من مصادرة كاملة وتزوير واضح رآه المواطن رأي العين أكبر تهيئة للثورة مما سهل قبولها سريعا .
أما في 2014 فقد كَمُنَ النظام خلف الستار وصدر الإخوان ومرسي على أنهم النظام المطلق، واستثمرت المليارات في حملات الدعاية السياسية ضدهم، وتم توظيف كل برنامج إعلامي من خلال تحالف رجال الأعمال "الفلول" والمتعاونين مع أجهزة سيادية لصنع رأي عام "شوفيني" يهيئ للانقلاب ويعد له بشكل جيد ، وتم توظيف أخطاء الإخوان و"سذاجتهم" أحيانا وقلة خبرتهم أحيانا كثيرة في الإيقاع بهم إعلاميا وسياسيا، مما أوصل الثورة الحالية لحالة من التصلب في الشرايين حيث أنها مازالت مستمرة ولكنها أمام انقسام مجتمعي عميق وقوي مما يصعب حتى الآن تحويل المعركة لنظام وشعب.
في 2011 كانت نفسية المجند
المصري غير مهيأة لعمليات القتل الواسعة ولم يكن بإمكان القادة
العسكريين تحويل المجند من عقيدة مواجهة العدو الخارجي ليصبح عنصر قتل في ميليشيا مسلحة باسم الوطن ليقتل أخاه، ولم تكن لدى النظام ما تكفي من المبررات حتى ولو كانت زائفة لإقناع المجند بممارسة مثل تلك العمليات، ولكن خلال 3 سنوات تمت عملية إعادة بناء النفسية المقاتلة للجندي المصري وتحويل عقيدة الفرد القتالية للداخل و تمت عمليات الشحن التدريجي النفسي للجنود حتى وصلنا إلى مشهد 2013 وعملية قتل 3000 معتصم بدم بارد دون أن يحرك ذلك ساكنا على صعيد نفسية الجندي أو حتى على صعيد "الرأي العام" الشعبي، فقد تحول قطاع من الشعب إلى قتله "نفسيا" وأصبحت تصفية الخصم بالرصاص أمرا طبيعيا وليس مستهجنا.
مع كل تلك الحقائق التي سردناها في المقال السابق وهذا المقال يتضح لنا أن المعركة اختلفت تماما، وأن من الخطأ إعادة توظيف ذات الأدوات في المواجهة واستخدام ذات العقلية التي أوجدت يناير الأولى كما أن عمليات استعادة الحلفاء القدامي ستبوء بالفشل لفروق منهجية وبنيوية في كلا الثورتين. إن على متخذ القرار أن يعي تلك الفروق جيدا ويكفي إضاعة للوقت أن يتم تكرار ذات المحددات، ويجب مراعاة بعد الرأي العام والعمل المجتمعي في سياق الصراع لأنه محدد لا يمكن إغفاله ولا يمكن اكمال المعركة بدونه، وربما نتناول في مقالات لاحقة محددات الصراع الحالي مما يسهم في تحديد مسار المستقبل بشكل واضح دقيق.