السلفية في
مصر هي "تيار" في أصلها والغالب الأعم فيها وهي عبارة عن منطلقات عقدية واتجاهات فقهية ومدراس استدلالية. ولم تكن يوم ما حركة أو حزب، وانتشارها دوما كان بطرق انتشار أفكار لا التنظيمات، ولذلك كانت خصوماتها غالبا مع الاطروحات العقدية والسلوكيات "البدعية". فقد كانت السلفية بمصر مشغولة بمحاربة انحرافات التصوف، وكانت تراهم الخصم الأول منذ دخلت مصر، واشتبكت مع أشعرية الأزهر، ومع اعتزالية بعض المفكرين الكبار، وحاربت دوما ظاهرة التيسير الفقهي أو إن شئت التمييع الفقهي ولهذا كانت خصوماتها كتيار تتناسب وطبيعتها وكان الاخوان دوما ليسوا خصما "أصيلا" في اطروحات السلفية - اللهم إلا في نقد سلوكياتهم او اختياراتهم الفقهية - كونهم ليسوا مذهبا عقديا أو فقهيا، وطبيعة التيار أنه يصطدم مع "عناوين" وأفكار لا كيانات وأحزاب، وهذه طبيعة أي تيار ذي منطلقات فكرية إنما يتصارع مع شبيهه ونظيره ونده.
لكن تحولا بنيويا ظهر في مسار السلفية عبر تاريخها، حيث أنه مع تضخم الإخوان، ليس في مصر وإنما في المنطقة، وبروز لعبة الديمقراطية "الجزئية" في الكويت ومصر وغيرها، بدأت أطروحات السلفيين داخل الحالة السلفية تدعو لتنظيمها وتكتيلها وتوظيف الانتشار الواسع للحالة السلفية والتيار السلفي لتنظيم حركي فاعل. وهذا برز على يد مجموعتين، هما سلفية الكويت وعلى رأسها الشيخ "عبد الرحمن عبد الخالق"، وسلفية "السرورية" بالسعودية وكانت على يد محمد سرور زين العابدين. وهذه الأخيرة قد ارتأت في بدايتها التنظيم لخدمة الدعوة فقط، بينما الأولى اتجهت لتوظيفه فيما وراء الدعوة وهو العمل السياسي والحزبي، وسرعان ما واجه التنظيمان عمليات قصف كبرى من داخل البناء السلفي نفسه لإدراكه أنه لا يصح أن يتم تأميم "التيار والحالة" لصالح كيانات ستكون لاحقا احتكارية ذات مصالح أخرى سياسية وشخوصية وغيرها، ولذلك تم تبديع الحالة داخليا من بقية صنوف السلفية ومشيخاتها وتياراتها.
سرعان ما انتقلت العدوى للداخل المصري، حيث تبنت سلفية الاسكندرية القادمة أيضا من أصول "تنظيمية" كالجماعات الاسلامية في السبعينات؛ رؤية تأطيرية وتنظيمية لتحويل السلفية لـ"حركة" توظف اسم التيار لصالح مشروع مجموعة من المشايخ "المهجنين". فلقد كان تأثر مؤسسي
الدعوة السلفية بالاسكندرية ببعض من أفكار محمد قطب وسيد قطب واضحا، بل بالغ الوضوح في أفكارهم في مسائل الحاكمية، ولهذا فقد أخذوا شكل التنظيم والحركة لكنهم أخذوا على عاتقهم اختيارا كان "عقائديا" قبل أي شيء وليس مجرد اجتهاد فقهي، وهو أنه لا يصح شرعا الدخول في لعبة الديمقراطية كونها لعبة "كفرية" تضع الدين على طاولة التصويت وبجانبه الكفر، وهذا كلام مشايخهم وهذا ما أصّل له ياسر البرهامي نفسه في كتابيه "المنّة" و"شرح المنّة"، وفي كتاب "السلفية ومناهج التغيير"، حيث اعتبر برهامي فيه أن الديمقراطية ليست للاسلاميين وأن الجيوش العميلة للغرب بمجرد أن يقترب الإسلاميون من السلطة عبر الديمقراطية ستنقلب عليهم. ونظر أيضا شيخهم الشحات لذلك في مجموعة مقالاته عن فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا، وكانوا دوما يلومون الاخوان في ذلك ويلومون عليهم تحالفاتهم مع العلمانيين في إصرار منهم على مفهوم نقاء الراية.
كان يرى "تنظيم" الدعوة السلفية بالاسكندرية في أطروحات مشايخه أن عمليات التشريع في ظل الديمقراطية هي عمليات "كفرية"، وأن الجيوش وحكام البلاد هم طواغيت، وبمجرد حكمهم بغير الشريعة قد وقعوا في "الكفر"، وإن لم يُكفَّروا بشخوصهم لعلة غياب إقامة الحجه عليهم. وكان كتاب "شرح المنة" يشرح الفرق بين الوقوع في الكفر وبين تكفير المعين، حيث أنه لا غضاضة أبدا لديهم في وسم فعل الديمقراطية بأنه كفر وبأن المؤمنين به الممارسون له وقعوا في الكفر - وإن لم يُعتبروا بذاتهم كفارا - وأن مبارك نفسه قد وقع في الكفر لأنه حكم بغير شرع الله وأن تكفيره كشخص ينقصه بعض الآليات فقط لإقامة الحجة ليس إلا. وبالرغم من ذلك كان الخروج عليه محرما، ليس لأنه ولي أمر، وإنما لعلة منع مفسدة أكبر وبناء على فلسفة حقن الدماء التي سفكت بها دماء الآلاف لاحقا. وبهذا اشتركوا مع السلفية المدخلية في النتيجة وإن افترقوا في المقدمات.
كل تلك الأطروحات الفكرية والفقهية والعقدية تحولت إلى ورق "تواليت" سريعا في أول اختبار ميداني لها. فقد أسست الدعوة السلفية بالاسكندرية حزبا أسمته
حزب النور، وأصبح الإخوان هم الخصم الرئيسي له على مر معاركه، رغم أنهم تحالفوا في مرات قليلة جدا. وأصبحت الديمقراطية بها مصالح ومفاسد، وبها خير وشر، وأصبحت الجيوش الطاغوتية لاحقا جيوشا وطنية، وأنها أحرص على مصر من الإسلاميين. وأصبح السيسي أولى بالتحالف فقهيا من مرسي، وأصبح دستور الانقلاب دستورا يحفظ الشريعة، وأضحت الانقلابات ذاتها فكرة جيدة للتخلص من الاخوان، حيث أن الخلاف معهم عقائدي بينما الخلاف مع الجيش لا يذكر، وكأن السيسي قد تتلمذ على يد ابن باز وأخذ الصحيحين على يد الألباني. وأصبحت تهنئة المسيحيين جائزة اليوم وأن عيدهم عيد لكل المصريين. وأصبح من الواجب دعم الداخلية، وأصبح المنتفضون بوجه الطاغوت اليوم "أشبه بالخوارج"، وأصبحت مؤتمراتهم تحت حماية قوات الطاغوت. وأصبح اليوم التفاخر من البرهامي بأنه وجد تحالف رجال الأعمال والجيش والفلول والعلمانيين فقرروا الانضمام له، بعد أن كانت كل تلك التشكيلات "طاغوتية" في نظرهم سابقا.
هذه التحولات لا يمكن أبدا تفسيرها بأنها تحولات فكرية، فالتحولات الفكرية لا تأتي بهذه السرعة ولا وبهذا الحجم، إلا في حالتين إما أن صاحبها تعاطى 10 زجاجات شمبانيا، أو أنه بالأساس لم يكن مؤمنا بما يطرحه بالقدر الكافي. وهناك تفسير العمالة للجهاز الأمني، لكنني دوما أحبذ تفسير سلوك هؤلاء باستخدام أدوات علم النفس لا علم المنطق، وهذا ما سنتعرض له في المقال القادم.