مدونات

حرب أوكرانيا: "لعنة" ألمانيا الاقتصادية

كان شولتس يريد زيادة حجم المساعدات الأوكرانية- الأناضول
تواجه ألمانيا أزمة سياسية- اقتصادية معقدة في توقيت شديد الحساسية بالنسبة إليها ولمنظومة الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه، وهي التي تُعدّ قاطرة أوروبا الاقتصادية وأحد أبرز أقطابها. وبينما تستعدّ القوى الجيوسياسية الكبرى لانطلاق ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسط الكثير من الاحتمالات والسيناريوهات التي يغلب عليها حالة "عدم اليقين"، تفتقد أوروبا الزعامة القوية التي تمكّنها من بناء توازن الحد الأدنى في العلاقات مع ترامب وسياساته الإشكالية، إذ كان التعويل على فرنسا وألمانيا في ذلك بالدرجة الأولى.

أزمة غير مألوفة منذ عقدين

الحال اليوم، هو أنّ الأخيرة تعيش السنة الثانية من الركود الاقتصادي، وهي حالة لم تعرفها برلين منذ أكثر من عقدين، حيث بدأت علائمها تظهر مع جائحة كورونا وآثارها الكارثية على الأسواق، ومن ثم مضاعفات الحرب الأوكرانية التي دفعت أوروبا نحو الاصطفاف خلف حكومة كييف، وبالتالي التخلي عن الغاز الروسي.. وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الاستهلاكية في أوروبا إلى مستويات قياسية.

الوقت الذي سيدخل فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيض الأبيض، ومعه فريقه الذي عكف على اختياره خلال المدة الفاصلة عن تنصيبه، تكون ألمانيا غائبة عن الساحة السياسية العالمية

يضاف إلى ذلك تراجع الصادرات إلى الصين، وخصوصا صادرات قطاع السيارات الذي يُعد ركيزة الاقتصاد الألماني، الذي يعاني من فقدان الوظائف وإغلاق المصانع اليوم:

- في الأشهر الأخيرة من عام 2024، بيّنت الصحف الألمانية أن شركة "فولكس فاغن" تخطط لإقفال 3 من أصل مصانع لها داخل ألمانيا، ومصانع أخرى في أوروبا، مع تسريبات تشير الى تسريح أعداد كبيرة من العمال والموظفين تقدر بنحو 30 ألف موظف، فضلا عن تخفيض الأجور للباقين. وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024 أعلنت "فولكس فاغن" تراجع أرباحها بنسبة 64 في المئة عن السنة التي قبلها، والسبب الأساسي تراجع المبيعات في الصين، بما يؤكد حقيقة التسريبات.

- أعلنت شركة "ميلي" المعروفة في مجال إنتاج الأجهزة المنزلية، كذلك، عن خطط لنقل قسم من إنتاجها الى بولندا، وتأثير ذلك على نحو 700 وظيفة.

- أيضا، قررت شركة "كونتيننتال"، المورد الرئيسي لقطاع السيارات تقليص قوتها العاملة بنحو 7 آلاف وظيفة، وإغلاق عدة مواقع لها.

- في دراسة أجرتها "غرفة الصناعة والتجارة الألمانية"، بينت أن ثلث الشركات الصناعية في البلاد، وكذلك 40 في المئة من الشركات الأخرى، تخطط لنقل استثماراتها.

انهيار أكبر داعم مالي لأوكرانيا

مع توالي المؤشرات الاقتصادية السلبية، زادت حالة الاستقطاب السياسي حول موقف ألمانيا من الصراع في أوكرانيا والدعم المالي الهائل، حتى في أوساط الائتلاف الحكومي نفسه، بين "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، و"حزب الخضر"، و"الحزب الديمقراطي الحر"، الذي يعرف بـ"تحالف إشارة المرور"، حيث يجتمع اللون الرسمي المعتمد لكل حزب منها لتشكيل ألوان إشارة المرور المعروفة.

وتعد ألمانيا أكبر داعم مالي لأوكرانيا، وثاني أكبر مصدر للأسلحة إليها بعد أمريكا. وكانت موازنة العام 2025 "القشة التي قصمت ظهر البعير"، مع تخفيض وزير المالية المنتمي إلى "الحزب الديمقراطي الحر" حصّة المساعدات لأوكرانيا، من 8 إلى 4 مليارات دولار. بالإضافة إلى الاستمرار في سياسة كبح الديون الحكومية وتجنّب الاقتراض العام، الذي أدى إلى نقص شديد في الاستثمارات، ولا سيما على صعيد البنى التحتية المتهالكة، في حين أنّ الحزب "الاشتراكي الديمقراطي الحر"، الذي ينتمي إليه المستشار أولاف شولتس، كان يريد زيادة حجم المساعدات الأوكرانية، وإطلاق سياسة تشجع على الاستدانة من أجل إنعاش الاقتصاد المترنح، ومعه كذلك "حزب الخضر".

أدى ذلك في النهاية إلى انهيار الائتلاف الحكومي، بعدما أقال شولتس وزير ماليته، وهو ما اضطره إلى مواجهة اختبار طرح الثقة بحكومته في البرلمان (البوندستاغ).. فرسب فيه شولتس بفعل أنه فقد الأكثرية الهشّة، حيث حجب البرلمان الثقة عن الحكومة في 16 كانون الأول/ ديسمبر الفائت، وهو ما اضطر شولتس إلى استخدام صلاحياته لحلّ البرلمان، والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة، سارع رئيس الجمهورية إلى تحديدها في 23 شباط/ فبراير 2025.

التحول الأوروبي نحو التطرّف

بهذا المعنى، فإنّ الوقت الذي سيدخل فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيض الأبيض، ومعه فريقه الذي عكف على اختياره خلال المدة الفاصلة عن تنصيبه، تكون ألمانيا غائبة عن الساحة السياسية العالمية.

ستكون ألمانيا الخاسر الأكبر مع انحسار نفوذها وتأثيرها على سياسات الاتحاد الأوروبي، وخسارة رهانها السياسي على دعم أوكرانيا، ناهيك عن التوقعات السلبية التي تحوم حول اقتصادها خلال السنوات القليلة المقبلة

الأسوأ من ذلك كذلك بالنسبة للمحللين الغربيين، أنّ ارتفاع احتمالية وصول الأحزاب المتطرفة، سواء يمينية أو يسارية، إلى الحكم ستكون عظيمة، خصوصا بعدما سجلت تلك الأحزاب ارتفاعا هائلا في شعبيتها، حسبما تشير استطلاعات الرأي، وكذلك عشية الانتخابات المحلية التي أجريت في الولايات الألمانية.

كما تشير العديد من التحليلات والدراسات والتقارير، إلى أنّ الأزمة السياسية في ألمانيا لم تكن لتنفجر وتبلغ هذا المدى لولا الحرب الأوكرانية. إذ تبين دراسة أجراها "المعهد الاقتصادي الألماني" المرتبط بأرباب العمل، أنّ حرب أوكرانيا كلفت ألمانيا خسائر تُقدّر بنحو 240 مليار يورو، وخسارة إجمالية في استهلاك الفرد تُقدّر بقرابة 4800 يورو. أضف إلى ذلك، فإنّ الدراسة نفسها أظهرت أن إجمالي تأثيرات جائحة كورونا والتطورات الجيوسياسية منذ عام 2020 أوصل إلى خسارة إجمالية للنمو بلغت نسبتها نحو 4 في المئة من الناتج الاقتصادي.

هذه المؤشرات كلّها تزيد من مخاوف التحول الأوروبي إلى قوى اليمين المتطرف، حيث تفسح الأزمتان الألمانية والفرنسية، المجال أمام رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان، وكذلك نظيرته الإيطالية جورجيا ميلوني، للدفع بالاتحاد الأوروبي نحو رؤية راديكالية لا تكون مؤيدة لروسيا فحسب أو أقل عداوة تجاهها نظرا لعلاقاتها الوثيقة مع موسكو، بل تتسق مع النهج السياسي "الإشكالي" للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

وبالتالي، ستكون ألمانيا الخاسر الأكبر مع انحسار نفوذها وتأثيرها على سياسات الاتحاد الأوروبي، وخسارة رهانها السياسي على دعم أوكرانيا، ناهيك عن التوقعات السلبية التي تحوم حول اقتصادها خلال السنوات القليلة المقبلة.

ما يمكن أن يعزّي ألمانيا بعض الشيء، هو أنّ فرنسا (جارها اللدود) ليست أفضل منها حالا، إذ أنّ التنافس بينهما سوف ينتقل اليوم بفعل الأزمة، من المنافسة على زعامة القارة العجوز إلى الانكفاء نحو الداخل لمواجهة "انقسام سياسيّ" غير مسبوق، ولم تشهده القارة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.