قضايا وآراء

متلازمة الدورة الحضارية وتحسين الأداء

إن من أوجه الأمن القومي التي يجب أن تصان بعناية فائقة، لكون الاستعمار الحديث يتقصدها عبر الحروب الهجينة: الأمن القومي الأخلاقي والتربوي..
الكفاءة القيادية

"تحسين الأداء" تعبير يتكرر على ألسنة المسؤولين الجزائريين من أعلى هرم السلطة إلى أدناها في كل المجالات تقريبا، من دون أن يتحسن أداؤهم في واقع الأمر، ومن دون أن يتساءل هؤلاء المسؤولون عن الخلل الذي أدى إلى الفشل في هذا التحسين. والمساءلة تقتضي المحاكمة وتاليا المعاقبة في الشرائع كلها. ولكن من يحاسب من؟

أشير على عجل إلى مكمن المشكلة التي لا يحسن المسؤولون فهمها، لأنهم لا يمتلكون المؤهلات العلمية لفك طلاسمها، إنها الولوج إلى "الدورة الحضارية" أو البقاء خارجها. ومن يبقى خارجها يحدث له ما يحدث للمسؤولين عندنا من مراوحة وتخبط في كل تجربة تحسين يكثرون الحديث عنها.

مفهوم الأمن القومي لا ينحصر في حماية الحدود مما قد يتهددها، بتجنيد المزيد من الرجال والعتاد، الأمن القومي معناه متعدد الأوجه متشعب التفاصيل، ولا يكاد قطاع يخلو منه في حياتنا المعاصرة. إنها الجاهلية الحديثة متسلحة بالعلم تنخر في كيان الأمة وقد تسقط الأوطان. وليست الخشونة والحدة في المزاج واستعراض عضلات الجنود وسب الرب والدين بكافية وحدها لإخافة الأعادي.
الدورة الحضارية تشبه النواعير وهي تدور، ولكي تعلو أي دولة تلك الدورة لا بد لها من قرار سيادي تتخذه زمرتها الحاكمة. ومن شروط الارتقاء في تلك الدورة أن يستصحب المرتقي قاعدتين أساسيتين هما العلم والصلاح في أسمى معانيهما، فهما المفتاحان السحريان اللذان ضيعتهما السلطة بعد الثورة التحريرية.

من ركب إحدى الدورات الحضارية من الأمم المتقدمة اليوم، غفل عن استصحاب الإيمان بربه وأخذ مفتاح العلم وحده مجردا من تعاليم الخطاب الإلهي، فصعد وارتقى حتى توقفت به النواعير فجأة، وقد يكون وصل إلى أعلى القمة. وهنا افتقد المرتقي الحيلة ولم يهتد إلى الخلاص سبيلا، وتبعه إلى ما هو عليه غفّل من الناس أرادوا الالتحاق به وبدورته الحضارية من دون أن يفقه التابع والمتبوع كيف وصلت بهم الأوضاع إلى هذا الحال، ولم يتفطنوا إلى الأيام كيف يداولها الله عز وجل بين الناس...

ولكن، لماذا لا يبلغ من فقه أسرار الحياة عن ربه ولاة الأمر في بلداننا المسلمة لينقذهم مما هم فيه تيهان؟

أهمية النظرة الكونية

النظرة الشمولية للأشياء تهب المسلم فهما صحيحا لما يدور حوله من متغيرات، وتمنحه أفضلية التحكم في مجرياتها، بما يجعله سيدا على كون مسخر له في الأصل؛ المهم أن تكون نظرته إلى المخلوقات ربانية، من خلال تعاليم الله الذي أبدعها ودل الإنسان على أسرارها كيما يتنعم بها، من غير أن يفسد فيها أو يتصادم بها. إن الاستغراق في تفاصيل الحياة الدنيا تجعل الإنسان مرتهنا بتقلباتها الضارة والنافعة، ولا يأمن على نفسه منها أن ترديه مهالك هو في غنى عنها. لا يكترث المسلم المعاصر بأهمية النظرة الشمولية للكون والإنسان والحياة، وأصبح جل اهتمامه منصبا على تفاصيل الحياة التي يحياها، من دون أن يعي جوهرها وخصائصها، مهما تقلبت به وأرهقته وأخذت من عمره المحدود.

إن مواقع "القيادة والسيطرة" أكثر ما يستهدفه أعداء الأمة ويحرصون عليه، ولدى هؤلاء سوابق في التاريخ، ففي عهد السلطان العثماني عبد الحميد (رحمه الله)، حينما عرض عليه اليهود تسديد ديون السلطنة لقاء أراض يستوطنون بها، فكان لا يبالي بطلباتهم ولا يرعيها أي اهتمام. فطنة الحاكم المسلم تغني الأمة الإسلامية عن مهالك شتى كان الأحرى بها ألا ترمي بنفسها إليها. إن أمتنا اليوم تكاد تكون مستباحة في كل شيء لولا أن دعوات المصطفى (صلى الله عليه وسلم) تحوطها بالحماية من الهلاك المفني من كل جانب؛ فلله الحمد وله الشكر على ذلك. إن ذهنية الصد عن ذكر الله وعن الشعائر التعبدية والمشاعر الدينية متفشية في كل زمان ومكان، وعلى المسلم الكيس الفطن أن يتنبه إلى كل ذلك، ولا يكونن في أيدي الشياطين وأوليائهم "كالكرة في أيدي الصبيان".

كان أول ما تلقى إبني في أول يوم دخل فيه القسم التحضيري للمرحلة الابتدائية النشيد الرسمي "قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات"، وهو نشيد له تأثير خاص على النفوس حينما يلحن مترافقا مع الموسيقى التي تستثير الحماسة والوطنية. فقلت له: ماذا تعلمت اليوم في المدرسة؟ فقال ببراءة الطفولة: "هاذيك، قسما بالله...".     

لقد لفتت إجابته انتباهي إلى الفطرة السليمة عندما تكون نقية لم تداخلها أفكار بشرية يحتمل لها التأويل هذا أو ذاك. كما لفتت انتباهي إلى البرنامج الدراسي الذي تفرضه وزارة التربية والتعليم في الجزائر على أبنائنا، والذي لا يعزز في نفوس الناشئة الإيمان بالله وحب الإسلام كأول ما يجب أن يتلقاه الأطفال على مقاعد الدراسة... إنها قضية جوهرية تحيلنا على علمانية التربية والتعليم، وتجافيها لتعاليم الدين، في بلد المليون ونصف المليون شهيد.

الفكر الليبيرالي يقدس المادة ويسعى إلى الاستثمار في كل شيء، لا يبالي الليبيراليون بالمسموح ولا بالممنوع، ولا بما يليق وما لا يليق، المهم عندهم أن يدر النشاط مالا. أما الشرع الإسلامي الحنيف فيبيح جمع المال من حله ويحض على إنفاقه في سبيل الله، لا العكس؛ أي لا يبيح للمسلم أن يستثمر ماديا في أعمال الآخرة من أجل دنياه، بل يرشده إلى العمل في دنياه على أن يدخر ثوابه لأخراه.
تكرار النشيد الوطني على مسامع الناشئة كل صباح في المدارس له آثار عكسية على نفسياتهم لا شك في ذلك ولا ريب، فكثرة الترداد ستجعلك تمل تلك المعاني الجميلة التي يبثها ذلكم النشيد في النفوس. وغياب المصليات في المدارس ثقب أسود يودي بالمكتسبات التعليمية، فلا ترى مساءلة تربوية على تضييع فريضتين مكتوبتين الظهر والعصر، ويقضي التلميذ مساء يومه في المدرسة من دون أن ينبهه أحد على الصلاة. ولا ننس آداب الاستنجاء، فإن المتمدرسين يتركون على سجيتهم يتدافعون أمام المراحيض من دون عناية بالموضوع، فيجلب إلى بيته سوء الفعال.

الكيان الإسرائيلي عمل منذ تأسيسه على ترسيخ مبادئ التوراة والتلمود في نفوس بنيه، وأخذهم بالعلم الحقيقي فنالت جامعاته المراتب الأولى وعلماؤه الجوائز الكبرى، وبنى دولة بيننا تراعي المدنية في آخر تجلياتها، المهم أنه انتصر على ملياري مسلم حتى بداية "معركة طوفان الأقصى".

صيانة الأمن القومي

مفهوم الأمن القومي لا ينحصر في حماية الحدود مما قد يتهددها، بتجنيد المزيد من الرجال والعتاد، الأمن القومي معناه متعدد الأوجه متشعب التفاصيل، ولا يكاد قطاع يخلو منه في حياتنا المعاصرة. إنها الجاهلية الحديثة متسلحة بالعلم تنخر في كيان الأمة وقد تسقط الأوطان. وليست الخشونة والحدة في المزاج واستعراض عضلات الجنود وسب الرب والدين بكافية وحدها لإخافة الأعادي.

إن من أوجه الأمن القومي التي يجب أن تصان بعناية فائقة، لكون الاستعمار الحديث يتقصدها عبر الحروب الهجينة: الأمن القومي الأخلاقي والتربوي، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والأمن القومي الثقافي، واللغوي، والسيبيراني.. وغير ذلك من الميادين التي تفوقت فيها الحضارة الحديثة. وينبغي أن يدفع لكل مجال فيها رجال ومال وعتاد، بأقصى درجات الجودة والاتقان، هكذا نعقلها وعلى الله الاتكال بعد ذلك، كما أوصانا صاحب الرسالة (عليه الصلاة والسلام).

قرأت عما جناه منهج الإخوان على التدين الموروث للأمة منذ قرون في بلادنا خاصة، والحق أن جانبا منه صحيح، ولكن زاوية النظر إلى الموضوع محدودة جدا. فما يهمني الإشارة إليه أن الحركة الإسلامية عموما عاشت ولا تزال غربة في المجتمع، بسبب خياراتها وسلوكها، منها تجافيها عن ثقافة المجتمع الفقهية. ولربما كان لواقع الهيئات الدينية، الزوايا والوزارة، ما نفر الشباب من هذا الاندماج. ثم إن المراد الأسمى لهذه الحركات كان الإصلاح السياسي، وفي السياسة الشرعية فقه لا يتسع له مذهب بعينه. وألق الدعوة الإصلاحية والإحيائية في المشرق كان له تأثير بين. ولا ننسى أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اتخذت من الوهابية منهجية لمحاربة الاستعمار وأذنابه. إذن في الموضوع تشعبات، وفي التشعبات إنجازات وإخفاقات، يحسن الإضاءة عليها، حتى لا يفهمن أحدهم أننا تعزف على وتر من يشيطن حركة إصلاحية كالإخوان، تتصدى للمحتلين في فلسطين.

إن دولا كالمملكة العربية السعودية تستخدم ما هو أسمى وأجل من أجل عرض من الدنيا قليل. فبعد أن كان اشتغال الحاج والمعتمر بما سوى الشعائر والنسك بدعة ومدخلا من مداخل إبليس يحذر منه "كبار" علمائها، أصبحت إقامة متحف يحكي تاريخ المسجد النبوي بالقرب من القبر الشريف بدار الخلافة الأولى مبعثا على الافتخار والتداعي لزيارته مترافقا مع زيارة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم). وللمفارقة، فقد أنشئ مرأب أسفل الحرم المدني لركن السيارات، مقابل مبلغ يدفعه الراكن بحسب المدة التي يقضيها في الحرم متعبدا أو زائرا للروض الشريف. ومن سخرية الأقدار بهؤلاء القائمين على المرأب ألا يشعروا بقبح ما يصنعون وهم يجمعون النقود من الزوار. يقال مثل ذلك الانطباع عن أكثر المواقع قيمة روحيا وتاريخيا في البقاع المقدسة. إنها أبواب الدار الآخرة وليست مرافق سياحية أيها السادة الذين تدعون "خدمة" الحرمين الشريفين!

الفكر الليبيرالي يقدس المادة ويسعى إلى الاستثمار في كل شيء، لا يبالي الليبيراليون بالمسموح ولا بالممنوع، ولا بما يليق وما لا يليق، المهم عندهم أن يدر النشاط مالا. أما الشرع الإسلامي الحنيف فيبيح جمع المال من حله ويحض على إنفاقه في سبيل الله، لا العكس؛ أي لا يبيح للمسلم أن يستثمر ماديا في أعمال الآخرة من أجل دنياه، بل يرشده إلى العمل في دنياه على أن يدخر ثوابه لأخراه.