جاءت قرارت مجلس النواب الليبي، أو لنقل
رئاسة المجلس، بسحب صلاحيات حكومة الوحدة الوطنية، ونزع صفة القائد الأعلى للقوات
المسلحة من المجلس الرئاسي ومنحها لمجلس النواب، في ظروف سياسية محتدمة، وخدمة
لهدف فرض رؤية جبهة "طبرق ـ الرجمة" في توجيه المسار السياسي.
لم تكن توجهات مجلس النواب الجديدة ردة فعل
على قرار المجلس الرئاسي تأسيس مفوضية خاصة بالاستفتاء على الدستور فحسب، وإن كان
هذا مبررا للإعلان عن المواقف الجديدة لجبهة الشرق، وإنما هي خطوة ضمن مسار واضح
يعزز غلبة جبهة الشرق في إدارة الصراع، ورفع سقف المطالب إذا تمت العودة إلى
المسار السياسي.
يبدو المشهد بالنسبة لجبهة الشرق، وهو مبشر بالنسبة لهم في جوانب عدة، إلا أنه لا يمكن الجزم بأنه سيمضي على ما هو مرسوم له، خاصة فيما يتعلق بوضع الجبهة الغربية في البلاد، ومواقف الأطراف الدولية.
سبق
قرارات النواب الأخيرة تغيير في معادلة
التوازن بين أطراف النزاع إثر التقارب بين النواب والمصرف المركزي وموافقة الأخير
على تمويل الميزانية التي اقترحتها حكومة الشرق التابعة للنواب، والبالغة نحو 180
مليار دينار ليبي. وجاء قرار رئاسة مجلس النواب بالأمس عضدا لهذا التقارب، حيث
اعتبر عقيلة صالح تعيين الشكري محافظا للبنك المركزي العام 2016م كأن لم يكن، وثبت
الصديق الكبير في منصبه.
حزمة القرارات، التي قلنا إنها ترسم ملامح
توجه الغلبة وفرض واقع جديد، تجتمع من خلالها السلطات التنفيذية والتشريعية، بما
في ذلك القرار العسكري، بيد جبهة "طبرق ـ الرجمة"، وهذا يجعل جبهة الشرق
في وضع سياسي وقانوني ومالي أقوى إذا كانت الحرب هي الخيار، ويعزز من موقفها
وموقعها التفاوضي إذا كان الحوار هو الوجهة.
الوضع المحلي والخارجي ربما تهب رياحه لصالح
توجهات جبهة الشرق، ذلك أن الجبهة الغربية تواجه اضطرابا وارتباكا يهدد تماسكها
وينذر بتفجر الوضع بين مكوناتها السياسية والعسكرية، فالمجلس الأعلى للدولة لم يعد
الواجهة والمظلة السياسية الجامعة والممثلة للمجموع العام في غرب
ليبيا، ووضعه صار
إلى ضعف أكبر بعد الانقسام والنزاع الذي وقع خلال انتخابات رئاسة المجلس مطلع
الشهر الجاري.
على الصعيد الأمني والعسكري فإنه لم يقع
احتواء الخلاف بين القوى الفاعلة في العاصمة، ويبدو أن لكل تكتل عسكري أنصاره من
المدن المجاورة، وقد كانت مواجهات الأسبوع الماضي في حي تاجوراء بالعاصمة مؤشرا
على الاصطفاف الذي قد ينزلق إلى صدام أوسع.
خارجيا، فإن جبهة الشرق تستفيد من المشروع
الروسي الحيوي في إفريقيا الذي يعتمد على ليبيا كبوابة ومعبر حيوي، وذلك في ظل
غياب
سياسة غربية، أمريكية أوروبية، رادعة، كما تعتمد على الدعم المصري الذي يعمل
على عدة مسارات من بينها ترجيح كفة جبهة الشرق سياسيا وعسكريا، أما تركيا التي هي
حجر عثرة أمام خطط تحكم الشرق الليبي في القرار السياسي والمالي والعسكري، فقد بدت
على استعداد للتراجع خطوات عن سياساتها السابقة إذا حققت أهدافها المتعلقة باتفاق
ترسيم الحدود البحرية وتأمين حصة جيدة في مشاريع الإعمار، وهي مصالح تتحكم فيها
بدرجة لا بأس بها سلطات الشرق الليبي.
إن تعظيم نفوذ الشرق الليبي على حساب جبهة غربية مهلهلة قد يغري بشن هجوم مشابه لما وقع العام 2019م، وهو أمر بات غير مرغوب دوليا، وبالعموم فإنه سيناريو يخدم المشروع الروسي على حساب مصالح الغرب الأمريكي الأوروبي وأمنه
هكذا يبدو المشهد بالنسبة لجبهة الشرق، وهو
مبشر بالنسبة لهم في جوانب عدة، إلا أنه لا يمكن الجزم بأنه سيمضي على ما هو مرسوم
له، خاصة في ما يتعلق بوضع الجبهة الغربية في البلاد، ومواقف الأطراف الدولية.
الخلاف بين مكونات الجبهة الغربية لا يعني
أنها باتت جاهزة لتمرير قرارات وتوجهات جبهة الشرق المتعلقة بالتفرد بسلطة التنفيذ
والتشريع بما في ذلك القرار العسكري، وقد يقود تسرع جبهة الشرق في ترتيب المعادلة
لصالحها إلى ردود فعل تقوض هذا المسار، وهذا ما ألمح إليه المبعوث الأمريكي الخاص
لليبيا، رتشارد أولموند. بمعنى أن تحركات سياسية وأمنية من المحتمل أن تقع في
الغرب الليبي قد تقطع الطريق على المسار الذي خطته جبهة طبرق ـ الرجمة، وهو
سيناريو نتيجته انتقال الأزمة الليبية إلى مستوى أعلى في التأزيم.
على المستوى الخارجي، فإن تعظيم نفوذ الشرق
الليبي على حساب جبهة غربية مهلهلة قد يغري بشن هجوم مشابه لما وقع العام 2019م،
وهو أمر بات غير مرغوب دوليا، وبالعموم فإنه سيناريو يخدم المشروع الروسي على حساب
مصالح الغرب الأمريكي الأوروبي وأمنه، وبالتالي فإن التسليم به هو مخالف لتوازن
القوى الذي يضبط حركة الأطراف الدولية الفاعلة. أيضا لا يمكن التكهن بأن أنقرة
يمكن أن تجعل الطريق مفتوحا لتمكين جبهة الشرق أكثر قبل أن تتحصل على شيء ملموس
فيما يتعلق بمطالبها، وهو ما لم يكن أن تلتزم به جبهة طبرق ـ الرجمة، فملف ترسيم
الحدود تتقاطع فيه مصالح دول منها مصر، بمعنى أنه ليس قرارا بيد سلطة الشرق الليبي
منفردة.