نشرت مجلة "
فورين أفيرز" الأمريكية تقريرًا تحدث فيه عن الانهيار الكبير لحكم رئيسة الوزراء
بنغلادش الشيخة
حسينة التي كانت تُوصف بـ"المرأة الحديدية لبنغلادش" بعد 15 سنة من الحكم المطلق.
وقالت المجلة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن رئيسة وزراء بنغلادش الشيخة حسينة أنهت عقدًا ونصف من الحكم المتواصل أمس الاثنين بالاستقالة من منصبها والفرار من البلاد.
وقد حثّ
الجيش، الذي استولى على السلطة في بنغلادش، حسينة على الرحيل في عدة مناسبات في وقت هددت فيه انتفاضة شعبية في جميع أنحاء البلاد بإسقاط قوات الأمن.
وفي مشاهد سريالية، تجوّل المتظاهرون في غرف مقر إقامة رئيسة الوزراء في العاصمة دكا، واستلقوا على الأثاث والتقطوا صورًا. وتشير التقارير إلى أن قائد الجيش واكر أوز زمان قد تولى زمام الأمور الآن، وتعهد بتشكيل حكومة مؤقتة قبل إجراء انتخابات جديدة، على الرغم من أن كيفية تشكيل هذه الحكومة لا تزال غير واضحة.
وينهي سقوط حسينة فصلا مضطربا في تاريخ بنغلادش. ففي العقود الأخيرة، تم الاحتفاء بالبلاد باعتبارها نموذجاً للعولمة والتنمية؛ حيث ازدهر الاقتصاد، وارتفع الدخل، وتحسنت المؤشرات الاجتماعية المختلفة، لكن هذه الأخبار السارة أخفت نقاط الضعف المستمرة، بما في ذلك اتساع الفوارق الاقتصادية، وارتفاع معدل البطالة بين الشباب، والتحول إلى الاستبداد في عهد حسينة وحزبها وفق المجلة.
وقد أدى الاستياء من الحكومة والاقتصاد إلى تأجيج الاحتجاجات التي اندلعت في دكا في أوائل تموز/يوليو الماضي قبل أن تنتشر في جميع أنحاء البلاد.
وكما فعلت في الماضي، فقد قمعت حسينة
المظاهرات بلا رحمة، وقتلت قوات الأمن مئات الأشخاص في غضون أسابيع قليلة، وتولت جماعات خيرية مهمة جمع جثث المحتجين مجهولة الهوية.
وقد قمعت السلطات موجة جديدة من المظاهرات في أوائل آب/ أغسطس الماضي، ما أسفر عن مقتل 90 شخصًا آخرين. لكن تلك المذبحة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد طفح الكيل، وتدفق البنغاليون إلى الشوارع، ما أجبر حسينة على الهروب سريعًا بواسطة مروحية عسكرية إلى الهند.
وذكرت المجلة أن الأيام القليلة الماضية في السياسة البنغالية ستكون مادة دسمة للباحثين لسنوات قادمة، فقد كشفت عن الطبيعة الهشة لنظام حسينة الذي بدا محصنًا لفترة طويلة ضد تحديات المعارضة، لكنه انهار في غضون ساعات فقط.
كما أن هروبها يخرق أيضًا الهالة الشخصية التي نسجتها حول والدها، مؤسس البلاد الذي ادعت أنها تحمل رايته. ففي خضم الاضطرابات التي وقعت في أمس الاثنين، أحرق المتظاهرون المتحف التذكاري الذي بنته حسينة لوالدها بحسب المجلة.
وأضافت أن الأهم أن الإطاحة بحسينة جاءت على يد قوة لم يسبق لها مثيل في بنغلادش: حركة شعبية جماهيرية غير منتمية لأي حزب، لكنها قادرة على إعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد.
وأردفت، ان تمكن قوة شعبية حقيقية من التخلص من مستبد يبدو أنه لا يقهر أمر مُلهم، لكن مثل هذه الانتفاضة الشعبية غير المكتملة تجلب أيضًا شكوكًا كبيرة حول اليوم التالي. ومع احتفال البنغاليين بنهاية نظام حسينة، قد يكون لديهم أيضًا سبب للقلق بشأن ما هو آت.
طنجرة ضغط
ذكرت المجلة أن حسينة هي ابنة الشيخ مجيب الرحمن الذي قاد حرب استقلال البلاد سنة 1971 ضد باكستان. وكانت حسينة حتى استقالتها أول امرأة في العالم تشغل هذا المنصب طيلة هذه الفترة.
وصنفتها مجلة التايم وفوربس كواحدة من أقوى الشخصيات في العالم، كما وصفتها مجلة الإيكونوميست بأنها "سيدة آسيا الحديدية"، لكنها غالبا ما كانت تستخدم هذه السلطة في غير محلها.
فمنذ أن بدأت ولايتها الثانية كرئيسة للوزراء في سنة 2009، تراجعت بنغلادش في مختلف مؤشرات الديمقراطية ومقاييس حرية الصحافة، وأشرفت حسينة على إزالة الحواجز الرئيسية التي تحمي الديمقراطية، وتقييد استقلال القضاء، والتضييق على المجتمع المدني والصحافة، بحسب التقرير.
وقد حاولت أحزاب المعارضة والشباب البنغالي التصدي لهذه التوجهات في عدة مناسبات، لكن حكومة حسينة واجهتهم بالقوة الغاشمة.
وقد تزامنت استبدادية حسينة المتزايدة مع تحول سيئ في اقتصاد البلاد. وفي العقود الماضية، بدا أن بنغلادش قد حققت نموا اقتصاديا كبيرا، لكن العديد من الاقتصاديين يشككون الآن في مصداقية الإحصاءات التي تقدمها الحكومة.
وبغض النظر عن النمو الذي حققته البلاد، فإن منافعه تركزت في القمة.
ويحصل أثرى 10 بالمئة من البنغاليين على أكثر من 41 بالمئة من إجمالي دخل البلاد، بينما يحصل العشرة في المئة الأفقر على ما يزيد قليلًا على الـ 1 بالمئة فقط، بحسب التقرير.
وأشارت المجلة في تقريرها، إلى أن الانتفاضة الشعبية في تموز/ يوليو الماضي عكست التقاء شقين من الاستياء، الأول استياء
الطلاب من نظام المحاصصة الذي خصص 56 بالمئة من وظائف الخدمة المدنية لمجموعات معينة من الناس.
وكانت حسينة قد ألغت هذا النظام في سنة 2018 بعد أشهر من الاحتجاجات، لكن المحكمة العليا أعادته في حزيران/ يونيو الماضي. وقد خرج الطلاب الغاضبون إلى الشوارع، واشتدت احتجاجاتهم بعد أن شبهتهم حسينة بالرازاكار - وهي قوات شبه عسكرية مكروهة دعمت الجيش الباكستاني خلال حرب الاستقلال - ما أثار غضب الطلاب وجذب المزيد منهم إلى الشوارع.
وكانت قضية المحاصصة مجرد قمة جبل الجليد ورمزًا لنظام مكرس ضدهم. فقد تضاعفت نسبة البطالة بين الشباب منذ سنة 2010، من حوالي 6 بالمئة إلى أكثر من 15 بالمئة، كما أن أكثر من 40 في المئة من البنغاليين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة لا يدرسون أو يعملون أو يتدربون على وظائف.
وقد دفعت هذه الحقائق مئات الآلاف إلى الانضمام إلى الحركة. ورداً على ذلك، هاجمت الشرطة والطلاب المؤيدين للحزب الحاكم المتظاهرين، ما زاد من تأجيج الوضع.
أما الشق الثاني وفق المجلة، فهو الشعور العميق بالحرمان الاقتصادي والسياسي حيث شهد المواطن البنغالي في السنوات الأخيرة معاناة كبيرة بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مثل الكهرباء. وفي الوقت نفسه، شهد المواطنون استمرار الفساد بين المسؤولين الحكوميين وأسرفت الحكومة على مشاريع بنية تحتية لا طائل منها.
ويرى البنغاليون والمراقبون الدوليون أن هذه المشاريع أتاحت قدرًا كبيرًا من الكسب غير المشروع. فعلى سبيل المثال، بلغت تكلفة جسر بادما جنوب شرق دكا ضعف ميزانيته الأصلية. وفي الوقت نفسه، شعر المواطنون بالعجز المتزايد عن التأثير على توجهات البلاد، فقد أجريت آخر انتخابات حرة ونزيهة في سنة 2008.
وبين التقرير أنه منذ ذلك الحين، وجدت حسينة وحلفاؤها طرقا لترجيح كفة حزبها الحاكم من خلال تغيير طرق إدارة الانتخابات، كما وجد المراقبون المحليون والدوليون العديد من المخالفات في تنظيم الانتخابات في العقد الماضي.
وتشير التقارير الإعلامية إلى أن الحكومة اعتقلت وعذبت زعماء الطلاب الذين قادوا الحركة الأخيرة من أجل إصلاح نظام الحصص.
وكانت منظمات حقوق الإنسان الدولية قد جمعت أدلة على أن الشرطة وغيرها من القوات شبه العسكرية استخدمت بنادق هجومية من طراز إيه كيه -47 لتفريق المتظاهرين، في انتهاك لاتفاقيات جنيف التي وقّعت عليها بنغلادش.
وخففت الحكومة من حظر التجول أثناء النهار، وسمحت للمكاتب بإعادة فتح أبوابها، وأعادت تدريجيا تشغيل وسائل النقل بين المدن، ولكن هذه التدابير لم تنجح في إخفاء حقيقة مفادها أن بنغلادش شهدت مذبحة هائلة.
ولم تكن الانتفاضة الشعبية منظمة ولا موجهة من قِبَل الأحزاب السياسية المعارضة، ومع ذلك لجأت حسينة إلى الرواية المألوفة المتمثلة في إلقاء اللوم على حزب المعارضة الوطني البنغالي وحزب جماعة الإسلامي في إثارة الاحتجاجات.
وأصرت حسينة على أن "الإرهابيين" هم من أطلقوا العنان للعنف. لقد حاولت حسينة من خلال إلقاء اللوم على هذه الجماعات تصوير الأزمة الداخلية على أنها معركة لحماية الدولة العلمانية من القوى الإسلامية وبالتالي إقناع الغرب إما بتقديم المساعدة لها أو البقاء على الهامش. ولكن هذه الحيلة فشلت في إقناع البنغاليين أو شركاء البلاد الخارجيين.
سقوط المستبد
وبدأت الأحداث المباشرة التي أدت إلى سقوط حسينة تتكشف في الثالث من شهر آب/ أغسطس الحالي، عندما نظم الطلاب مسيرة حاشدة في دكا انضم إليها مئات الآلاف من الناس من جميع مستويات المجتمع.
وكان هذا التجمع بمثابة شهادة على حقيقة مفادها أنه على الرغم من مئات الوفيات في الأسابيع السابقة، فإن الحكومة لم تقم بقمع الاضطرابات. ولم يطالب المحتجون سوى باستقالة حسينة.
وفي البداية، لم تأخذ حسينة وزعماء الحزب المطالب على محمل الجد، حيث توقعوا أن يتمكن الناشطون الموالون لها، إلى جانب الشرطة، من قمع الاضطرابات الأخيرة. ولكن بعد الفظائع التي وقعت في الأسابيع الأخيرة، دعا الطلاب إلى مسيرة وطنية في دكا، التي جلبت الآلاف إلى العاصمة وأجبرت حسينة على الفرار.
وقالت المجلة الأمريكية، إن السرعة التي انتقلت بها حسينة من كونها حاكمة لبنغلادش لفترة طويلة إلى المنفى لا تصدق. وهذا يشير إلى أن النظام كان هشا للغاية. فقد أبقت شبكات المحسوبية بين البيروقراطية والجيش النظام طافيا، ولكن التزام هؤلاء المستفيدين بالنظام كان ضعيفا للغاية.
وعلى مر السنين، أصبح سماسرة السلطة في البلاد منفصلين عن الجمهور ومعتمدين بالكامل على المؤسسات القسرية للدولة. ولم يتمكنوا من الصمود في وجه تحدي الانتفاضة الجماهيرية التي هددت بإغراق تلك المؤسسات.
وقد سعت حسينة إلى جعل مجيب، الذي اغتيل في سنة 1975، خالدًا في أذهان الناس ورمزًا لشجاعة حكمها وحكم حزبها. ولكن الآن، مع فرارها، فقدت حسينة قوتها ولن تمارس نفس النفوذ على السياسة في بنغلادش.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة في نهاية نظام حسينة هو كيف حدث ذلك، إذ لا تشهد بنغلادش الاضطرابات السياسية أو المظاهرات الحاشدة لأول مرة. ولكن في جزء كبير من الأمر، كان الصراع السياسي في العقود الأخيرة مسألة حشد الأحزاب ضد بعضها البعض ــ وعلى رأسها رابطة عوامي ومنافسها الرئيسي، الحزب الوطني البنغالي.
وتابعت: "لم تكن هذه الديناميكية حاضرة في الاحتجاجات الأخيرة. وبدلاً من ذلك، نهضت حركة شعبية تتألف في المقام الأول من الشباب لتحتل مركز الصدارة في السياسة في بنغلادش واحتشد الملايين معارضةً للحكومة، وهو نطاق من الانتفاضة لم يكن بوسع أي حزب سياسي أن يسهّله".
وتشكل الإطاحة بحسينة لحظة تاريخية، ودليلاً إضافيا على أنه حتى الحاكم الأكثر عناداً لا يستطيع صدّ شعب ساخط لفترة طويلة.
في خضم التفاؤل الذي أعقب سقوط حسينة، هناك عدة أسباب تدعو للقلق. تتولى المؤسسة العسكرية الحكم حاليًا، كما فعلت بين سنة 2007 و2008. وهي تزعم أنها تهتم بمصالح مواطني بنغلادش، ولكنها في واقع الأمر عازمةٌ على ضمان عمل الدولة لصالحها.
وكثيراً ما تتعارض مصالحها مع مبادئ المساءلة. وترغب المؤسسة العسكرية في الحفاظ على قدر كبيرٍ من الوضع الراهن، ولن تتسامح مع أي إصلاحات كبرى. وفي غياب مثل هذه الإصلاحات، قد تواجه بنغلادش نفس المصير في غضون بضع سنوات. ومن المرجح أن تتمكن المؤسسة العسكرية في غضون بضعة أشهر من تنظيم انتخابات جديدة، وأن تتولى حكومة مدنية منتخبة جديدة السلطة.
ولكن في غياب المزيد من التغيير الهادف، قد يشكل هذا عودة إلى الماضي. والمشكلة مع القوة واسعة النطاق غير المتبلورة التي أطاحت بحسينة هي أنها لم تقدم بعد رؤية واضحة للمستقبل تتجاوز الدعوات إلى نوع جديد من التسوية السياسية.
وفي الواقع، تحتاج بنغلادش إلى زعامة مركزة وحاسمة لتعزيز ديمقراطيتها (ربما من خلال الإصلاحات الدستورية) لاختراق شبكات المحسوبية التي تعمل من خلالها الدولة، والتأكد من أن المؤسسات تعمل لصالح الشعب. ولكن طاقات الحركة الشعبية قد تتبدد وتفشل في توجيه البلاد نحو التغيير الذي تحتاجه. وفي جهد بطولي، نجح البنغاليون في إسقاط نظام حسينة. ولكن ما الذي سيخرج الآن من بين الأنقاض؟