نشرت مجلة "
فورين أفيرز" مقالا
لأستاذ الشؤون الدولية في جامعة تكساس، ف. غريغوري غوس الثالث قال فيه إن الولايات
المتحدة عملت، لبعض الوقت، على تعزيز موقف
السعودية في المدار الجيوسياسي الأمريكي.
وحتى الحرب في قطاع غزة، التي قسمت المسؤولين في الرياض وواشنطن بشأن مسألة الحكم الفلسطيني، فإنها لم تخفف من رغبة إدارة بايدن في إبرام معاهدة أمنية واتفاقية نووية مع السعودية. في
الواقع، واصلت واشنطن السعي إلى إبرام هذه الصفقات مع الرياض، والتي من شأنها أن تشمل
أيضا اعتراف السعودية بـ"إسرائيل"، كرافعة محتملة لتحريك "إسرائيل"
نحو حل سياسي للقضية الفلسطينية.
ويبدو أن معاهدة الدفاع الأمريكية السعودية
واتفاقية التعاون النووي المدني في المراحل النهائية. ومع دفع البيت الأبيض نحو علاقة
أكثر دفئا مع الرياض، فإنه أصبح من الواضح ما تسعى إدارة بايدن إلى اكتسابه من الالتزام
الأمريكي الموسع تجاه السعودية: ليس فقط التحرك نحو شرق أوسط أكثر استقرارا ولكن أيضا
إغلاق أي احتمال بأن تجتذب
الصين السعوديين إلى دائرة نفوذها.
في الوقت الذي تتحوط فيه العديد من البلدان
في رهاناتها وسط المنافسة الناشئة بين الصين وروسيا والولايات المتحدة، يضاعف السعوديون
اعتمادهم التاريخي على واشنطن، لأنهم باختصار، يريدون ما لا تستطيع الصين ولا
روسيا
توفيره: الأمن.
لدى السعوديين شكوك خطيرة حول التزام الولايات
المتحدة ببلدهم ومنطقتهم، وهم يريدون تثبيت ذلك بأفضل ما في وسعهم من خلال معاهدة لن
تتغير من إدارة إلى أخرى. وتكمن المشكلة بالنسبة للرياض في أنه عندما تتعهد الولايات
المتحدة بالتزام أمني تجاه بلد ما، يتوقع معظم الأمريكيين أن يدعم هذا البلد واشنطن
في مجموعة كاملة من القضايا الدولية؛ الاقتصادية والسياسية، وكذلك العسكرية. وهنا قد
يخيب أمل السعوديين. فهم لا يريدون التحوط بشأن الأمن. إنهم يريدون أن يكونوا جزءا
من الفريق الأمريكي، لكنهم يريدون أيضا الحفاظ على بعض المرونة على الجبهتين الاقتصادية
والسياسية نظرا للأهمية الحاسمة للصين كعميل للطاقة وروسيا كمنتج للطاقة.
لقد كان القادة السعوديون، إلى جانب نظرائهم
في ممالك الخليج الأخرى قلقين بشأن التزام واشنطن بأمنهم خلال الإدارات الأمريكية الثلاث
الماضية. وقد تجلى التعب والإحباط الواضح لدى الجمهور الأمريكي من الحروب الطويلة في
أفغانستان والعراق تحت قيادة سلسلة من الرؤساء - باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن
- الذين تعهدوا بتقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط وتحويل الانتباه إلى شرق آسيا
ردا على صعود الصين. الواقع أن حقيقة مفادها أن الإدارات الثلاث وجدت نفسها عاجزة عن
تجاهل الاضطرابات في الشرق الأوسط ــ مثل القتال ضد تنظيم الدولة في العقد الثاني من
القرن الحادي والعشرين، ومؤخرا الحرب في غزة وصراعات "إسرائيل" مع حزب الله
وإيران ــ لم تهدئ مخاوف السعوديين.
ففي نظر السعوديين، اتخذ كل رئيس قرارا
فرديا ــ أو لم يتخذ قرارا ــ بدا وكأنه يؤكد أن واشنطن لا يمكن الاعتماد عليها. فقد
تفاوض أوباما على اتفاق نووي مع إيران، التي يعتبرها السعوديون أكبر تهديد لهم، دون
التشاور مع الرياض ودون تضمين أي تدابير تهدف إلى الحد من نفوذ إيران الإقليمي. أما
ترامب، الذي كان في أيامه الأولى في البيت الأبيض قد أظهر احتضانا علنيا للسعودية،
فقد فشل في التصرف عندما شنت إيران هجوما بالصواريخ والمسيرات على بقيق وخريص، وهما
من أهم منشآت النفط في السعودية، في أيلول/ سبتمبر 2019. وأوضح بايدن في بداية إدارته
أنه ينوي إبقاء الرياض بعيدة.
ولكن الحقائق الجيوسياسية القاسية قلبت
بسرعة السيناريو على إدارة بايدن. فقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022 والارتفاع
المصاحب في أسعار النفط إلى تحول بمقدار 180 درجة في نهج بايدن تجاه الرياض. وفجأة
بدت العلاقات الجيدة مع أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم أكثر أهمية لمصالح الولايات
المتحدة من المخاوف بشأن الاستبداد وحقوق الإنسان التي غذت موقف بايدن السابق. وعلاوة
على ذلك، رأت الإدارة إمكانية القيام بعمل ينافس ترامب في الشرق الأوسط، بحمل السعوديين
على الانضمام إلى اتفاقيات "أبراهام" من خلال الاعتراف بـ"إسرائيل".
وعندما لعبت الصين دور الوسيط في استعادة العلاقات الدبلوماسية الإيرانية السعودية
في آذار/ مارس 2023، فقد أعطى ذلك واشنطن الحافز الإضافي لتأمين السعودية على جانب
الولايات المتحدة في الحرب الباردة الناشئة بين الولايات المتحدة والصين.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن
سلمان، الذي يعد الزعيم الفعلي للمملكة، منفتحا على العلاقات الدبلوماسية مع "إسرائيل"
لبعض الوقت قبل الحرب في غزة. لقد أوضح لواشنطن أن ثمن هذه الخطوة الدرامية هو إنهاء
حالة عدم اليقين بشأن التزام الولايات المتحدة بأمن بلاده من خلال معاهدة دفاعية يصادق
عليها مجلس الشيوخ. ودعا محمد بن سلمان إلى دعم الولايات المتحدة لتطوير البنية
التحتية النووية المدنية في السعودية، دون القيود الصارمة على إعادة معالجة وتصدير
المواد النووية المطلوبة حاليا بموجب القانون الأمريكي. سيكون الحصول على مثل هذه الاتفاقيات
من خلال الكونغرس أمرا صعبا نظرا للشكوك الواسعة النطاق في الطموحات النووية السعودية
والنفور من سجل حقوق الإنسان السعودي بين أعضاء مجلس النواب والشيوخ. وبالنظر إلى البيئة
الجيوسياسية الحالية، فإن هذا يتطلب، في نظر الإدارة، ليس فقط الاعتراف السعودي بـ"إسرائيل"
ولكن أيضا الدعم الإسرائيلي النشط لالتزام واشنطن المحسن تجاه السعودية.
لقد رفعت الحرب في غزة مطالب السعودية للاعتراف
بـ"إسرائيل". قبل الصراع، كانت هناك مؤشرات على أن الرياض ستتخذ هذه الخطوة
إذا قامت "إسرائيل" ببعض الإيماءات الملموسة نحو تحسين حياة الفلسطينيين
في غزة والضفة الغربية. ولكن السعوديين يطالبون الآن بالتزام إسرائيلي حازم بجدول زمني
لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في تلك الأراضي، وهو الأمر الذي لن تقدمه الحكومة الإسرائيلية
الحالية. وبالتالي، فقد تباطأ الزخم نحو صفقة ثلاثية بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"
والسعودية، والتي كانت محور سياسة بايدن في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن حقائق القوة
الإقليمية والعالمية التي تكمن وراء هذا الزخم لن تختفي. وإذا تراجعت غزة عن عناوين
الأخبار، فمن المرجح أن تسعى الإدارة الرئاسية الأمريكية القادمة إلى إبرام الصفقة.
لا يوجد ما يضمن، حتى لو لم تعد غزة تحتل
مكانة بارزة في دورة الأخبار العالمية، أن الصفقة الثلاثية التي تصورتها إدارة بايدن
يمكن أن يحققها خليفته. قد لا تتمكن "إسرائيل" والسعودية من إيجاد أرضية
مشتركة بشأن القضية الفلسطينية.
منذ اندلاع الحرب في غزة، انخفض الدعم الشعبي للمفاوضات
بشأن الدولة الفلسطينية في "إسرائيل". ولكن حتى لو أيدت "إسرائيل"
الصفقة، فقد لا يوافق الكونغرس على الالتزامات الجديدة من جانب واشنطن التي تشكل شروطا
مسبقة لمشاركة السعودية في المفاوضات نظرا للعداء القديم تجاه المملكة في الكونغرس.
ولكن إذا ما سقطت كل القطع في مكانها وتم التوصل إلى الصفقة الثلاثية، فإن الولايات
المتحدة سوف ترغب في أن تكون واضحة الرؤية بشأن ما يمكن أن تتوقعه من السعوديين في
المقابل. ولن تجد الرياض أي مشكلة في التوقيع على زواج أحادي مع واشنطن بشأن القضايا
العسكرية والأمنية. وهذا هو ما تريده. ولكنها تريد أيضا المرونة في التعامل مع الصين
وروسيا وحتى إيران بشأن القضايا السياسية والاقتصادية ذات الأهمية للسعودية. ويتوقع
الأمريكيون عموما أن ينسجم حلفاؤهم الأمنيون مع مجموعة كاملة من قضايا السياسة الخارجية،
ويميلون إلى الشعور بالإساءة إذا رسم الحلفاء مسارهم الخاص؛ وفي حالة الرياض، سوف يحتاجون
إلى تخفيف هذا التفاعل.
وعلى الرغم من محادثاتهم الجارية مع واشنطن
بشأن هذه القضايا، فقد ابتعد السعوديون بالفعل بعض الشيء عن بعض المبادرات الأمريكية،
حتى داخل المنطقة. على سبيل المثال، كانت الرياض حريصة على تحرير نفسها من تدخلها العسكري
الفاشل في اليمن، حيث تحول الصراع المستمر منذ سنوات بين التحالف العسكري المدعوم من
السعودية والمتمردين الحوثيين إلى طريق مسدود لا يمكن حله. وعلى هذا النحو، لم تنضم
إلى الحملة الأمريكية ضد الحوثيين، الذين يواصلون إطلاق الصواريخ والمسيرات على السفن
التجارية في البحر الأحمر وحتى، مؤخرا، على "إسرائيل". ولم تنضم السعودية
إلى المقاطعة الدبلوماسية والاقتصادية لروسيا التي نظمتها إدارة بايدن في أعقاب غزو
موسكو لأوكرانيا. وتحافظ الرياض على علاقة اقتصادية واسعة النطاق مع الصين ولجأت إلى
بكين للتوسط في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران في عام 2023.
وترى السعودية أن الصين وروسيا تشكلان محور
مستقبلها لسبب شامل واحد: النفط. وفي هذه الأيام، أصبحت القوة الدافعة وراء السياسة
الخارجية والداخلية السعودية هي خطة التنمية الاقتصادية التي وضعها محمد بن سلمان،
والمعروفة باسم رؤية 2030، والتي تؤكد على تغيير الاقتصاد السعودي والحد من اعتماده
على النفط على المدى الطويل. ومع ذلك، يتطلب تحقيق الأهداف المنصوص عليها في رؤية
2030 مبالغ ضخمة من رأس المال في الأمد القريب، وهو ما يتطلب في الأساس الحفاظ على
أسعار النفط المرتفعة نسبيا الآن والحفاظ على حصة السعودية من المبيعات في سوق النفط
العالمية. وتعتبر روسيا مفتاحا للاستراتيجية السعودية بشأن الأسعار، فهي ثاني أكبر
مصدر للنفط في العالم، وتعاون موسكو ضروري لاتفاقيات الإنتاج التي تهدف إلى الحفاظ
على سعر النفط. والصين، باعتبارها المستورد الأكبر للنفط في العالم، ضرورية للسعوديين
للحفاظ على حصتهم في السوق، وهو الموقف الذي أصبح أكثر عرضة للخطر الآن بعد أن تسعى
روسيا إلى الحصول على حصة أكبر من السوق الصينية، بعد أن تجنبها عملاؤها الأوروبيون
التاريخيون. ولهذا السبب، فإنها لن تمانع الرياض أن تخضع للسياسات السياسية والاقتصادية لواشنطن
تجاه منافسي الولايات المتحدة العالميين.
إن بكين وموسكو شريكتان غير مثاليتين للرياض،
لكنهما مع ذلك ضروريتان للاستراتيجية الاقتصادية للمملكة. ويدرك السعوديون أنهم لا
يستطيعون أن يأملوا في إبقاء أسعار النفط مرتفعة دون تعاون روسي. ولهذا السبب، وبإصرار
من الرياض، تحول محور مفاوضات إنتاج النفط الدولية من أوبك إلى "أوبك+"،
التي تضم روسيا ومنتجين آخرين من خارج أوبك. لكن الروس كانوا مترددين في خفض إنتاجهم
والتضحية ببعض حصتهم في السوق من أجل رفع الأسعار. وفي كل من عامي 2015 و2020، رفضت
روسيا الموافقة على تخفيضات الإنتاج التي اقترحتها السعودية. وزادت السعودية الإنتاج
في كلتا الحالتين لدفع أسعار النفط إلى الانخفاض والضغط على روسيا للانضمام إلى الاتفاق،
وهو ما فعلته موسكو في النهاية. ويمكن وصف الاثنين على أفضل وجه بأنهما "صديقان
عدوان". ولكن هذه العلاقة لا بد أن تحافظ عليها الرياض من أجل مصلحتها الذاتية.
من ناحية أخرى، تعد الصين أكبر عملاء الرياض.
ومن الضروري الحفاظ على مكانة السعودية في سوق الطاقة الصينية. فقد استثمرت شركة أرامكو
السعودية مليارات الدولارات في مصافي التكرير والبنية الأساسية الأخرى في الصين لتأمين
وصولها إلى هناك. ونظرا للتغيرات الدرامية في أسواق الطاقة العالمية في أعقاب غزو موسكو
لأوكرانيا، فقد تجاوزت روسيا السعودية كمصدر رئيسي لواردات الطاقة إلى الصين، وهو الموقف
الذي من المرجح أن تسعى الرياض جاهدة لاستعادته. وسوف يفعل السعوديون ما يتعين عليهم
القيام به للحفاظ على علاقاتهم الاقتصادية مع الصين وزيادتها.
بغض النظر عمن سيتولى البيت الأبيض بحلول
عام 2025، فستكون الرياض على استعداد للتوقيع على علاقة أمنية قوية مع واشنطن طالما
أن الولايات المتحدة تفي بثمنها. والسؤال المطروح بالنسبة للولايات المتحدة، وهي تفكر
في مستوى جديد من الالتزام الأمني مع السعودية، هو ما إذا كانت تستطيع التسامح مع حليف
أمني في الرياض يسلك طريقه الخاص في التعاملات الاقتصادية والسياسية مع الصين وإيران
وروسيا.