منذ نحو عامين بدأت تصريحات المسؤولين
الأتراك، بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان تتزايد حول ضرورة وأهمية الانفتاح على
النظام السوري.
قد يكون تبرير اللقاءات التي حدثت بين
الجانبين التركي والسوري خلال العامين الماضيين، للوصول إلى تفاهمات حيال الشمال
السوري بواسطة الروس (اجتمع وزراء الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات في كل من روسيا
وتركيا والنظام السوري، في موسكو نهاية ديسمبر 2022، واجتمعوا كذلك في موسكو على
مستوى وزراء الخارجية في مايو 2023).
لكن أن تصل الأمور إلى حد حديث الرئيس
التركي بعدم وجود موانع تمنع ليس إعادة
العلاقات بين الدولتين، بل بين العائلتين
أيضا.
لماذا هذا الإصرار التركي على طي صفحة
الخلاف مع النظام السوري؟ ما هو المتغير الأساسي في المعادلة الجيوسياسية التي
تستدعي مثل هذه الانعطافة؟
ليست عملية الانفتاح التركي على النظام السوري عملية يسيرة من حيث نتائجها، فثمة عقبات هائلة تجعل الطرفين بعيدين عن بعضهما البعض على الصعيد الاستراتيجي،
إن أي محاولة لتفسير الظواهر السياسية،
تتطلب البحث عن المتغير الرئيسي ضمن حقبة زمنية محددة، وإذا ما ألقينا نظرة على
الوضع السوري منذ عام 2019 (انتهاء آخر معركة عسكرية)، لم يحدث أي تغير ذي أهمية،
سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد العسكري، فالملف السوري في حالة ستاتيكو،
فلا عملية تفاوضية جارية، ولا تغير في الجغرافية العسكرية، ولا تحول في التحالفات
الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
وفي بلد لا يمتلك بعد تقاليد راسخة في
الديمقراطية والمؤسسات البيروقراطية العقلانية، ويفتقد مجتمعه السياسي (الأحزاب)
لثقافة سياسية عريقة، سرعان ما تتحول قضايا جانبية إلى قضايا محورية إذا ما كانت
مادة ساخنة في الانتخابات وفي توجيه
الرأي العام.
هذا هو المتغير السببي الرئيس الذي يجب
تحويل أنظارنا إليه، إنه سبب تركي محلي بامتياز.
لقد أصبح ملف اللاجئين السوريين ثقيلا جدا
على حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وأدى إلى خسارته أصواتا كثير في
الانتخابات البرلمانية والبلدية والرئاسية.
السلطة والمعارضة
يتفق حزب "العدالة والتنمية" مع
المعارضة التركية على ضرورة إيجاد حل لملف اللاجئين السوريين في
تركيا، وأن هذا
الحل يجب أن يكون بالضرورة بمغادرتهم الأراضي التركية تجاه سورية، بقسميها التابع
للمعارضة والتابع للنظام.
ويتفق الجانبان التركيان بأن هذه العملية
تتطلب وجودا فاعلا للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض دول الخليج، كي يتم
التوصل إلى اتفاق شامل، وقد نوه رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض أوزغور أوزيل
بداية مايو الماضي عن خطة جديدة يسعى الحزب لتبنيها خلال الفترة القادمة، بمشاركة
الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بهدف تحسين فرص العمل وتوفير الغذاء والسكن
للعائدين من تركيا.
لكن السلطة التركية برئاسة أردوغان تختلف مع
المعارضة في الثقة بالأسد، لا يتعلق الأمر بمسألة أخلاقية في أن النظام لن يلتزم
بأية معايير أخلاقية يتم الاتفاق حولها بشأن مصير اللاجئين الذين سيعودون، بل
يتعلق الأمر بقضايا استراتيجية، فالأسد لن يلتزم بأي اتفاق فيما يتعلق بملف الشمال
السوري إلا بالقوة.
الحزب في عنق الزجاجة، فلا هو قادر على هذا
الملف مع النظام، ولا هو قادر على تركه، ولذا لجأ إلى تخفيف أدوات الضبط والمراقبة
على بعض الأتراك للتعبير عن غضبهم تجاه السوريين.
هو يدرك أن ملف اللاجئين لا يمكن حله مهما
بلغت سخونته في الداخل التركي عبر أدوات السياسة، أو بعبارة أخرى، لا ترغب تركيا
حل ملف اللاجئين من بوابة الاتفاقات السياسية الثنائية، لأن ستقدم تنازلات
استراتيجية للنظام السوري في الشمال لا تستطيع تحمل آثارها على مستوى الأمن القومي.
ولذلك، أخذت السلطات التركية تتبع سياسة
الخطوة خطوة، عبر تضييق الخناق على السوريين من جهة الدولة أولا، ثم من جهة الشعب
ثانيا، بما يجبر كثير من السوريين إلى مغادرة البلاد.
العقبات
ليست عملية الانفتاح التركي على النظام
السوري عملية يسيرة من حيث نتائجها، فثمة عقبات هائلة تجعل الطرفين بعيدين عن
بعضهما البعض على الصعيد الاستراتيجي، ومن هذه العقبات:
1ـ ما الذي يجبر الأسد على قبول عودة ملايين
السوريين السنة إلى مناطق سيطرته؟
السلطة التركية برئاسة أردوغان تختلف مع المعارضة في الثقة بالأسد، لا يتعلق الأمر بمسألة أخلاقية في أن النظام لن يلتزم بأية معايير أخلاقية يتم الاتفاق حولها بشأن مصير اللاجئين الذين سيعودون، بل يتعلق الأمر بقضايا استراتيجية، فالأسد لن يلتزم بأي اتفاق فيما يتعلق بملف الشمال السوري إلا بالقوة.
إن عودة هؤلاء تعني عبئا أمنيا واقتصاديا
على النظام السوري المترهل، وتزيد من أعبائه وأثقاله.
2 ـ إن عودة اللاجئين السوريين في تركيا
ستكون سابقة ستتبعها لواحق بالضرورة، مع دول الجوار الأخرى، وهو أمر لا يتحمله
النظام السوري.
3 ـ لماذا يقدم الأسد على حل مشكلة تركيا
بدون أثمان كبرى لا تسطيع تركيا تقديمها؟ مثل انسحاب الجيش التركي من الشمال
السوري، وهو مطلب لا يمكن لأنقرة تنفيذه، بعد كل الأثمان التي دفعتها على
المستويات المحلية والإقليمية والدولية من اجل السيطرة على الشمال السوري وإبعاد
القوات الكردية عن حدودها.
4 ـ والأهم أيضا، لماذا تتخلى تركيا عن
مكانتها في الساحة السورية من أجل ثمن بخس (عودة اللاجئين)؟
5 ـ لماذا يقبل النظام السوري عودة اللاجئين
من خارج أي إطار أممي ينتهي برفع العقوبات الاقتصادية؟
كل هذه المعطيات تفسر امتناع النظام السوري
خلال العامين الماضيين الرد على التصريحات التركية، بما فيها تصريحات أردوغان
الأخيرة، إذ اكتفت دمشق بالرد عبر وسائل إعلامها التي أكدت على أهمية الانسحاب
التركي من سورية.
قد يلتقي الأسد وأردوغان تحت أعين وسائل
الإعلام وأعين الشعبين السوري والتركي، بما يشكل انتصارا لكل طرف: أردوغان يخفف عن
شعبه بالقول إن طريق حل ملف اللاجئين قد بدأ، والأسد يخفف عن قاعدته الاجتماعية
بالقول إن طريق الانفتاح السياسي قد بدأ، أما حدوث نتائج غير واقعية فهذا غير ممكن.