عرف بقدرته على الخطابة، وإتقان التقنيات الرقمية الحديثة، وجذب انتباه الجماهير
قوي الشخصية والشكيمة والحجة، إلا أن أخطاءه كثيرة بحسب منتقديه وخصومه
يرجع إليه عديد من المتابعين للشأن السياسي الفرنسي الفضل في إنقاذ
فرنسا من الوقوع في أحضان
اليمين المتطرف الذي كان يستعد لاكتساح
الانتخابات البرلمانية، في انتخابات "أم المعارك" ضد التطرف والعنصرية.
جان لوك ميلنشون (ميلانشون) المولود عام 1951 في مدينة
طنجة بالمغرب لأب كان يعمل مديرا لمكتب البريد في طنجة التي كانت منطقة دولية وقتها، ولأم كانت تعمل معلمة، وكلاهما ولدا بالجزائر، يعود مسقط رأس جده لأبيه، إلى بلدية تقع في منطقة مرسية الإسبانية، واستقر في وهران بالجزائر بدايات القرن الماضي.
وبعد طلاق والديه، ترك ميلنشون المغرب في عام 1962 لينتقل مع والدته إلى فرنسا.
حصل في عام 1972 على شهادة البكالوريوس من جامعة "فرانش كونته" في تخصص الفلسفة، وأصبح مدرسا بالسلك الثانوي والتقني للغة الفرنسية. وبالموازاة مع دراسته، عمل مصححا في مطبعة، وهو ما سيعبد الطريق أمامه للالتحاق بالصحافة عبر مجلة "لاديبيش دي جورا".
وما أن ترك مهنة التدريس والصحافة في السبعينيات، حتى ولج إلى عالم السياسة من بوابة "الاتحاد الوطني" لطلبة فرنسا، وتدرج في العديد من المواقع في الاتحاد، وأيضا من خلال عضوية "الحزب الاشتراكي" عام 1976. لكنه ما لبث أن غادر الحزب عام 2008، بعدما خاض حملة ضد معاهدة الدستور الأوروبي مخالفا بذلك موقف الحزب.
وقام بتأسيس حزب أكثر راديكالية، أطلق عليه "حزب اليسار" الذي سيرثه في عام 2016 حزب "فرنسا الأبية (فرنسا غير الخاضعة /المتمردة)".
وقبلها كان أصغر عضو في مجلس الشيوخ في فرنسا عام 1986.
ثم لاحقا شغل، لفترة وجيزة، منصب وزير التعليم في عهد رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان، بينما كان عضوا في مجلس النواب، ومشرعا في الاتحاد الأوروبي عام 2009 حيث كان ظهوره المدوي عندما انتخب نائبا بالبرلمان الأوروبي عام 2009 وأعيد انتخابه ثانية في عام 2014، وبقي حتى عام 2017 حيث انتخب عضوا في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان).
احتل ميلنشون المركز الرابع بين مرشحي الدور الأول للانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2012. كما أنه ترشح في الانتخابات الرئاسية لدورة عام 2017 عن حزب "فرنسا الأبية". آخر محاولاته لأن يصبح رئيسا للفرنسيين منحته المركز الثالث في انتخابات عام 2022 وراء منافسيه إيمانويل ماكرون ومارين لوبان.
مواقفه السياسية والاجتماعية في جميع القضايا التي تتعلق بفرنسا والعالم لم تتغير كثيرا فقد كان الرجل واضحا لا يوارب ولا ينافق في طرح آرائه ومواقفه حتى وإن كانت عكس التيار السائد.
وأثار موقف الحزب من عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضد الاحتلال الإسرائيلي جدلا وانتقادات في فرنسا، واتهمت رئيسة الوزراء الفرنسية السابقة إليزابيث بورن الحزب بـ"معاداة السامية" .
ورد عليها الحزب بقوله بأنها "دنيئة". وقال ميلنشون إن "الموافقة على المجزرة المستمرة عار على بورن، فرنسا لا تتحدث على هذا النحو".
وكان الحزب قد حمل الاحتلال المسؤولية عن عملية "طوفان الأقصى" عندما قال إن "الهجوم المسلح لقوات فلسطينية بقيادة حماس يأتي في سياق تكثيف سياسة الاحتلال الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية والقدس".
لا يخاف ولا يتردد ميلنشون حين يقول إن "ما يفعله نتنياهو مع أهل غزة ليس مشروعا. فهو ليس دفاعا عن النفس، وإنما إبادة عرقية". ويعري العالم الغربي المنافق بقوله: "نحن نواجه في العالم بأسره ظاهرة ازدواجية المعايير، لقد رأينا كيف تحركت الولايات المتحدة وحلفاؤها لمواجهة الغزو الروسي، وصمتها شبه التام إزاء انتهاكات نتنياهو. أهل غزة لم يكونوا سجناء فحسب، بل يتعرضون للقصف عقابا لهم على مسؤولية جماعية مفترضة".
ورفض تهمة "معاداة السامية" معتبرا أن المصطلح "يساء استخدامه بشكل فج"، بحسب قوله. داعيا إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وهو الذي وصف كلا من إدوارد سنودن وجوليان أسانج بأنهما "شخصان قدما خدمة كبيرة للديمقراطية وللحرية على مستوى العالم، كاشفين كيف تتجسس الولايات المتحدة الأمريكية على كل شيء ولا تترك أحدا تقريبا، بمن فيهم المسؤولون السياسيون والاقتصاديون في فرنسا". متعهدا في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية بمنحهما الجنسية الفرنسية، و"الحرية الكاملة في التنقل".
وبسبب بروز ظاهرة دونالد ترامب ومارين لوبان وخيرت فيلدرز، دعا إلى عدم "اختزال ظاهرة الإرهاب في المهاجرين"، ودافع عن حق المسلمين في الوجود في أوروبا بكل حرية، "ما داموا غير متورطين في إيذاء أي أحد"، ودعا إلى "التفريق بين الإسلام والإرهاب".
وعقب تصدر تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي قاده ميلنشون نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة التي كان أطلق مسارها الرئيس الفرنسي ماكرون، فقد هتف نشطاء مغاربة: "فعلها ابن مدينة طنجة".
وبدا ميلنشون، فرحا ومزهوا بفوزه في انتخابات المفاجأة الكبرى والتاريخية، مطالبا رئيس الوزراء بالمغادرة، وأنه ينبغي على "الجبهة الشعبية الجديدة"، متصدرة الانتخابات التشريعية، التي ينتمي إليها حزبه، أن تحكم، قائلا إن "ماكرون تعرض للهزيمة وعليه أن يعترف بذلك"، وفق تعبيره.
ورغم أن أيا من القوى السياسية الفرنسية الثلاث الرئيسية لن تستطيع تشكيل حكومة بمفردها لعدم الوصول إلى الأغلبية المطلقة البالغة 289 نائبا، إلا أن زعيم "فرنسا الأبية" أكد أن "الفرنسيين أطاحوا، بوضوح، بأكثر الحلول سوءا"، في إشارة إلى هواجس صعود تيار اليمين المتطرف.
ميلنشون الذي اعتمد استراتيجية جديدة بالخطاب والإقناع تعتمد على التقنيات الحديثة ووسائل التواصل بالدرجة الأولى، يصفه خصومه بأنه "شعبوي متهور" ويثير المخاوف. وقد نعتته الصحف الفرنسية بعدة ألقاب، وأطلقت عليه "لو فيغارو" لقب "شافيز فرنسا" في إشارة إلى الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز.
أما "ليبراسيون" فقالت إن ميلنشون يسير في السياسة الخارجية على خطى "شافيز وبوتين" وأطلقت عليه بافتتاحية لها "الخطيب الأحمر".
لا يكترث كثيرا بما تقوله الصحافة ويقود قناة على "يوتيوب" تسجل نجاحا كبيرا، ومهرجاناته الانتخابية باستخدام تقنية "الهولوغرام" تصنع الحدث بفرنسا.
جان لوك ميلنشون حالة فريدة ضمن النخبة السياسية الفرنسية، وهو الوحيد الذي لا يزال يتمتع بثقل شعبي، وقدرة على تحريك الشارع حول قضايا محلية وخارجية.
لقد جعل ميلنشون من النقاش حول غزة شأنا فرنسيا داخليا، ولعب تيار ميلنشون هذه الورقة بقوة، وشارك أنصاره ونواب الحزب في الحراك الشعبي، ما أعطى التظاهرات والفعاليات التضامنية زخما، وشجع قطاعات كثيرة على كسر حاجز الخوف، والانخراط في التضامن الذي انتهى بفوز كاسح في الانتخابات الأخيرة ضد حلفاء حرب الإبادة على غزة .