إن التأمل الهادئ في مسيرة التطور الحضاري
للبشرية، وبشكل خاص الحضارة الغربية المعاصرة، يكشف عن حقيقة كبيرة، هي أن انسداد
الأفق أمام هذه الحضارة، على الرغم من تقدمها المذهل في مجال العلوم التكنولوجية
والكشوف العلمية، إنما هو تأكيد جديد للحكمة الربانية من بعث نبي أميّ في مجتمع بسيط، وسط حضارتي الفرس والروم، هذه الحكمة هي، أن تستيقن البشرية أن عقل الإنسان لا
يستطيع وحده أن يعي معنى وجوده على الأرض ورسالته فيها ومآله بعد الموت؛ لأن ذلك
كله من شأن الخالق وحده مدبر الكون _سبحانه وتعالى_.
إن الوجود والعدم وسر الخلق والغاية منه، هي
المسائل التي شغلت الفكر البشري، وشكلت على مر العصور مادة الفلسفة البارعة في
إثارة الأسئلة، لكن ليس في تقديم الإجابات الشافية عنها. وسيظل فكر الإنسان
عاجزا عن تقديم هذه الإجابات الشافية؛ لأن المسائل التي تدور حولها، يستقل بخبرها
وحي السماء، أي إن بيانها لا يكون إلا عن طريق
الدين، فهو وحده القادر على تقديم
نسق عام موحد محكم وشامل لهذه المعاني والمسائل جميعها.
فمعنى وجود الإنسان على الأرض، هو أن يعمل
متعبدا، ويتعبد عاملا، ليحقق معنى الاستخلاف؛ وهذا ما يحدد مكانته من الكون والطبيعة.
فهو سيد في هذا الكون، وهو في الوقت نفسه عبد الله، الذي سخر له هذا الكون بما فيه،
ومن هذه المعادلة الكبرى يتفرع كل شيء، في تناسق ونظام، وأول ذلك أن هذا الإنسان
السيد لا منافس له في هذا المحيط المادي العام الذي سخر له؛ وهذه السيادة يحققها
بالعقل الذي كرمه الله به ليوظفه في مجال اختصاصه؛ أي استكشاف عوالم المادة عن
طريق العلم، الذي يؤدي حسب هذا النسق العام وظيفتين متلازمتين متكاملتين؛ الأولى هي
اتخاذ الأسباب للانتفاع بنعمة التسخير؛ والثانية هي تعميق الإيمان بالخالق بالنظر
في سننه الماضية في خلقه وصنعه.
من الحقائق التي أفرزها التقدم العلمي المذهل الذي شهده الظرف الحضاري الأخير للقرن العشرين، وهذا الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، أن العلم أصبح يقتفي آثار الدين، بعد أن تأكد لهذا العلم أنه ليس هناك معرفة يقينية إلا في الدين، وأن العلم بعد أن صحا من غروره، عرف أنه لا يستطيع تجاوز الوصف إلى التفسير، وأنه لا يزيد على توسيع دائرة التساؤل والبحث، وهي وظيفته أصلا.
إن اهتزاز هذا النسق العام الموحد في منظور
الحضارات المتعاقبة عبر التاريخ، هو سبب تعثرها واضطرابها دائما؛ لأنها لم تستطع
تجاوز إشكالية عالم الغيب وعالم الشهادة؛ وهو ما لم تشهده الحضارة الإسلامية؛ لأنها
أخذت بذلك النسق القرآني العام القائم على التعدد والتميز والتنوع في إطار الوحدة،
فالله، سبحانه واحد والكون واحد والإنسان واحد، القرآن كون ناطق والكون قرآن صامت
الدين وحيه والكون صنعه، ولا يمكن أن يعارض وحيه صنعه، وعالم الغيب حق نهتدي إليه
من خلال عالم الشهادة؛ فالثاني دليل على الأول، وإن كانت لكل منهما أدوات خاصة
يدرك بها؛ فلا تعارض ولا تناقض بينهما، إذ لا تعارض ولا تناقض بين الدين الصحيح
والعلم الصحيح.
ومن الحقائق التي أفرزها التقدم العلمي
المذهل الذي شهده الظرف الحضاري الأخير للقرن العشرين، وهذا الربع الأول من القرن
الواحد والعشرين، أن العلم أصبح يقتفي آثار الدين، بعد أن تأكد لهذا العلم أنه ليس
هناك معرفة يقينية إلا في الدين، وأن العلم بعد أن صحا من غروره، عرف أنه لا يستطيع
تجاوز الوصف إلى التفسير، وأنه لا يزيد على توسيع دائرة التساؤل والبحث، وهي
وظيفته أصلا.
لقد حقق العلم التجريبي في العشرية الأخيرة
وحدها، ما حققته البشرية في عمرها الطويل كثافة وحجما وخطورة، ولقد تميزت هذه العشرية
كذلك بتقدم علوم الاتصال التي جعلت الكرة الأرضية قرية إلكترونية؛ فأصبح الإنسان
أيا ما كان موضعه فيها، يعلم بهذا الاكتشاف العلمي الجديد إبان تحققه.
هذه الحقائق التي عرضناها، لها ارتباط وثيق
بهذا الموضوع الذي نقدمه؛ لأنه ينطلق منها جميعا ليساهم في تحقيق الهدف الإنساني البعيد
الذي ينشده كل ضمير حر، ألا وهو الإقناع والتمكين للحوار والتعايش المتكامل بين
الديانات والثقافات والحضارات، وأساس ذلك كله هو تصحيح نظرة الناس للإسلام
وهدايتهم إليه، بلغة العصر، لغة العلم، لغة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
إن من الحقائق الكلية التي يخبر عنها القرآن
الكريم، أن الناس في كل عصر وجيل ثلاثة أصناف في موقفهم من الدين الحق:
الصنف الأول: هم أولئك الذين أوتُوا نضجا
عقليا وفكرا مفتوحا وحظا وافرا من المعرفة، تؤهلهم للتمثل والإدراك، وتمكنهم من
البحث والمقارنة والتحليل المنطقي، إلى جانب فطرة سليمة تجعلهم في حالة استعداد
دائم لتقبل الحق، واتباعه والإذعان إليه متى حصحص، وامتثال أوامره بمجرد أن يبصروا
به أو يظفروا بمن يدلهم عليه.
هؤلاء يخاطبون بالحكمة، أي بما يناسب
مستواهم ذاك، بالعلم، والمنطق والحوار القائم على الحجة والبرهان.
الصنف الثاني: هم الذين تغلب عليهم العاطفة
الجياشة والذهنية البسيطة غير المركبة، يتعاملون مع الحقيقة الدينية بفطرتهم
السليمة، إذ لا يقدرون على التمثل والتجريد والبحث والتحليل والتفكير المنطقي والقياس
العقلي، بل يتغذى إيمانهم بالموعظة الحسنة القوية المجسدة، ويتأثرون بالذكرى
والعبرة التي تدور حول الترغيب والترهيب.
الصنف الثالث: هم ذوو الفطرة الملوثة
والذهنية المريضة، هؤلاء کارهون للحق ضالون عن سبيله، عنادا ومكابرة؛ يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم غير مستعدين للإذعان للحق ولو رأوه وعرفوه، هؤلاء غير
معنيين بالحكمة ولا الموعظة الحسنة، بل يجادَلُون بالتي هي أحسن، لا طمعا في هدايتهم، فهم لا يهتدون في الغالب، ولكن لدحض دعواهم وفضح تناقضهم وهشاشة منطقهم؛ اتقاء
لشرهم وتحصين الخلق منهم.
هذه الأصناف الثلاثة هي التي عنتها الآية
الكريمة التي يخاطب الله سبحانه بها رسوله الكريم ﷺ "ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله
وهو أعلم بالمهتدين) (النحل/ 125).
والصنف الأول، هو الذي يعنينا هنا في المقام
الأول، وهو الذي نتوجه إليه بالدرجة الأولى، هذا الصنف من البشر، السليم الفطرة،
الباحث عن الحقيقة المقدر للإنسانية؛ إذا ما استطاع المعنيون بالأمر من أهل العلم
والفكر أن يثيروا فيه قلقه الوجودي وحسه المعرفي وفضوله الفلسفي، وهديه من ثمّ إلى دين الحق؛ إلى الإسلام، عن طريق هذا الإعجاز العلمي في القرآن. وإذا ما أيقن أن
هذا الكتاب حق، ووحي من الله سبحانه، وأنه مكمل ومصحح للكتب السماوية المنزلة قبله
ومهيمن عليها، فإن إيمانه هذا سيدفعه حتما إلى معرفة جوانب الإعجاز الأخرى في
القرآن التشريعية منها والاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية والحضارية، وإلى
بيان أسس علاقة الإنسان بذاته وبالآخر وبالكون والطبيعة؛ فيتأكد بعد ذلك من أن
هذا الدين منهاج رباني شامل كامل، جاء ليسعد الإنسان في الدارين، ويتأكد من أنه
رسالة حضارية إنسانية عالمية وسلام وأمن على البشرية.
وإن هذا العمل الدعوي في سبيل الله، قد
انطلق من تدبر آياته المتعلقة بالعلم والخلق والكون... في كتاب الله المقروء
(القرآن الكريم)، التي يفوق عددها الألف آية! والتي لم يوجد أي مثيل لأية آية منها
في الكتب السماوية السابقة، التي يقال (زورا وبهتانا)؛ إن النبي الأمي محمدا ﷺ قد
اقتبس القرآن الكريم منها، مع العلم أن العدد القليل من الإشارات العلمية الواردة
في هذه الكتب "المحرفة" (كما أخبرنا عنها القرآن)، هي في عمومها خاطئة
علميا ومناقضة لما هو موجود في النص القرآني، كما أثبت ذلك العالم الفرنسي الدكتور
"موريس بوكاي" في كتابه الشهير حول هذا الموضوع في السبعينيات من القرن
الماضي، وهو بعنوان: "الإنجيل والقرآن والعلم".
والغريب، أن أهل الكتاب الذين يدعون أن القرآن
الكريم مقتبس كليا أو جزئيا من كتبهم، كأنهم ينكرون على منزل التوراة والإنجيل
أن ينزل كتابا جديدا على نبي جديد، رغم اعتقادهم أن المنزل واحد والخالق واحد! مع
الملاحظة أن هذه الآيات القرآنية المعجزة علميا- كما سنرى- والموجودة حصريا في
القرآن الكريم وحده دون سواه من الكتب السماوية والوضعية، قد غطت في مجملها كل مجالات
الحياة جمادا ونباتا وحيوانا وإنسانا، وقد استعنا في ذلك بكتب التفسير المختلفة
والمتعاقبة على امتداد التاريخ الإسلامي، كل حسب اجتهاده في عصره وإمكانات مصره،
ومطابقة بعض ذلك كله على ما توصل إليه العلماء والباحثون التجريبيون في عصرنا
الحاضر من اكتشافات مهمة في مختلف مجالات الكون المنظور، مما لم يكن يخطر على بال
بشر قبل قرن من الزمان!
ومن الطبيعي هنا، أن نلاحظ بأن معظم المفسرين
المعاصرين وكل المفسرين القدامى يجهلون ما توصل إليه التقدم العلمي في المخابر المتطورة
من اكتشافات وحقائق مذهلة، تفسر العديد من الآيات القرآنية التي حيرت هؤلاء
المفسرين قرونا عديدة، وعجزوا عن إدراك حقيقتها التي لم يكن أمر الله قد حان بعد
ليتجلى في تسخير أعداء الإسلام والقرآن أنفسهم في الغرب، إلى اختراع الأدوات
الدقيقة والوسائل المتطورة جدا التي تغزو الفضاء وتسبر أغوار المادة وتستكنه
مجاهيلها المرئية، والاعتراف أحيانا، بما هو غير مرئي منها (...) بدءا بالذرة
والإلكترون والكورك، إلى مكونات الخلية الحية، وأخيرا (سنة 2000) فك بعض طلاسم
وألغاز الشفرة الوراثية للكائن البشري المركبة والمرتبة داخل النواة، بكيفية تحبس
أنفاس كل إنسان له ذرة من عقل سليم قادر على التفكر والتدبر!!
وقد أثبت هؤلاء العلماء والباحثون
التجريبيون في مختلف المجالات والتخصصات من حيث يدرون، أو لا يدرون أن القرآن سبقهم
إلى ذلك بقرون (مثلما وقع لعالم الأجنة الكندي كيث مور في مؤتمر الإعجاز العلمي
المنعقد في جدة في 1980، الذي كان سببا في إسلامه بعد أن وجد ما اكتشفه من أطوار
الجنين قد سبقه إليه خالق الكون بأوصاف مذهلة في الدقة منذ14 قرنا خلت، قبل اكتشاف
الكهرباء، فضلا عن الأجهزة العصرية المعقدة كالسونار والأشعة وغيرها...، وأن نبي
الإسلام محمد الأمي الأمين مرسل من ربه وأن القرآن من ثم منزل عليه من لدن حكيم
خبير، كمعجزة خالدة تعيش معنا بعد وفات الرسول الخاتم، وكأنه معنا قائم.
وهذه المعجزات القائمة والمسايرة لتطور
حياتنا، تتحدى الكبرياء والغرور البشري إلى يوم القيامة، كما عبر عن ذلك الخالق ـ عز وجل ـ بقوله: "قتل
الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته
فأقبره، ثم إذا شاء أنشره." (عبس/ 17-22) و "يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك
فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركب". (الانفطار 6 ـ 8).
ومثلما ثبت خطأ المفسرين في فهم بعض الآيات
المذكورة في القرآن الكريم قبل أن يتوصل التطور العلمي إلى اكتشاف حقيقتها، وفك ألغازها
مؤخرا كما يتبين ذلك بكل جلاء في كل حين... يثبت كذلك جهل هؤلاء العلماء
والمكتشفين المعاصرين (من غير المسلمين) بهذه الحقائق القرآنية القاطعة، المطابقة
حرفيا لما اكتشفوه من أمور في فضاءات الكون المنظور وفي الإنسان ذاته، كما أوضحنا
في المثال السابق لعالم الأجنة المهتدي إلى دين الحق على أيدي المهتدين من عباد
الله المخلصين في الدعوة الصادقة إلى هذا الدين!! مصداقا لقوله تعالى: "سنریهم آياتنا في
الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت/53).
وعندما يواجه هؤلاء العلماء والمكتشفون بذلك
من بعض المسلمين العارفين، يتعجبون وينكرون ذلك على القرآن لأول وهلة، ثم لا يلبثون
أن يصدموا بالحقيقة الناطقة، فيدخل بعضهم في الإسلام، وهم من كبار العلماء في
مختلف الجامعات ومراكز البحث في كل القارات.
لقد حقق العلم التجريبي في العشرية الأخيرة وحدها، ما حققته البشرية في عمرها الطويل كثافة وحجما وخطورة، ولقد تميزت هذه العشرية كذلك بتقدم علوم الاتصال، التي جعلت الكرة الأرضية قرية إلكترونية؛ فأصبح الإنسان أيا ما كان موضعه فيها، يعلم بهذا الاكتشاف العلمي الجديد إبان تحققه.
ويظل البعض الآخر منهم على كفره وتعصبه ضد
حقائق التنزيل الحكيم؛ متذرعين بحجة "استحالة" إخضاع الأمور الغيبية
"الميتافيزيقية" كالوحي والتنزيل (باللغة العربية) لاختبار أدواتهم المخبرية! وساد الجهل بين هؤلاء
وهؤلاء، واستفحل العداء بين العلماء الذين يؤمنون بالغيب ويتفكرون في خلق السماوات
والأرض... ويقدرون على البحث العلمي، ولكنهم لا يتوفرون على وسائله المتطورة التي
تتطلب أموالا طائلة وإمكانات لا قبل لهم بها، كأفراد في العالم الإسلامي، وبين أولئك
"الدنيويين" في العالم المتقدم، الذين يقدرون على البحث، ويتوفرون على
الدعم المعنوي والمادي من دولهم المتقدمة ماديا، التي ترصد ميزانيات خيالية للبحث
العلمي، وهم إذ يفعلون ذلك، فبعضهم بدافع حب الاستكشاف والرغبة في معرفة المجهول
لغاية المعرفة والتقدم وغزو الفضاء، والبعض الآخر لغرض معرفة أصل الكون وأسرار
الخلق، بهدف التوصل إلى إزاحة رعب البعث ووجود الخالق عز وجل؛ أملا في التخلص
أو التملص من تبعات مسؤولية الإيمان باليوم الآخر والحساب والعقاب... التي تنغص
عليهم حياتهم البهيمية، وتكبح جماح غرائزهم الدنيا، التي لا تعرف الحدود في هذه
الحياة التي لا يرضون عنها بديلا، ولا يريدون لها فناء، ولا لمتعها زوالا!
هذا عن الكفار والملاحدة الأجانب الذين لا
يعرفون القرآن نصا، ولا يعترفون به تنزيلا، أما الدنيويون" من المنتسبين
اسميا وجغرافيا إلى خريطة العالم الإسلامي، والناطقين بلغة التنزيل المبين لسانا،
فلما أدركوا الخطر المحدق بهم نتيجة الإعجاز القرآني والفتح الرباني والإيماني
العظيم المحقق للمسلمين، عن طريق الاكتشافات المذكورة الصادمة لهم والمخيبة لآمالهم
في حياة بلا مسؤولية وحساب وعقاب حتمي لا ريب فيه، وجدناهم يبتكرون أسلوبا جديدا في
الدعوة إلى الكفر والتضليل، بادعائهم الغيرة على القرآن وإطلاق دموع التماسيح على
قدسية النص القرآني الثابت، الذي أصبح في زعمهم مهددا بربطه بمجال نتائج العلوم والاكتشافات
المتلاحقة والمتغيرة باستمرار، وذلك بدعوى الخوف على مصيره (في نظرهم نتيجة ما قد
يخبئه المستقبل من بطلان لتلك النظريات، التي يربطها العلماء المسلمون بالنص
القرآني في إطار البحث عن صور الإعجاز العلمي، ومحاولة فهم القرآن وتفسيره على
ضوئها، فيما يخص تلك الإشارات العلمية التي ظلت مستعصية على فهوم أسلافهم طوال
قرون (كما قلنا)، وهذا يتماشى تماما مع ما قاله الرسول الكريم عن القرآن الحكيم
بأنه: "لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد"، وأن الشيئين الأساسيين
الكفيلين بتفسيره عبر العصور المتعاقبة مستقبلا هما: "لسان العرب ولسان الزمن". وهكذا ننبه إلى أن هذه الخدعة التي ابتكرها هؤلاء "الحداثيون" الضالون
المضلون، لا تنطلي على أصحاب النهى والبصيرة من دعاة الأمة، وهي تدل دلالة قطعية
على أن ما اكتشفه العلم من حقائق تنطبق على نص آيات القرآن، هي صحيحة بدليل إسلام
المئات من كبار العلماء من مختلف المستويات والتخصصات، كما تفاجئنا الأخبار في
وسائل الإعلام طوال العام في السنوات الأخيرة.
وإننا نجزم أنه لو وجد أولئك الضالون
المضلون في هذه الاكتشافات العلمية والحقائق الكونية التي أثبتها العلم الحديث أي
تناقض، ولو بسيط، مع أية آية من آيات الذكر الحكيم، لكانوا أول السباقين إلى
الإشارة إليها تشنيعا وتشهيرا بالقرآن وتشفيا في أهله، كما عهدناهم دائما في
مواقفهم المخزية مع الإسلام في غير هذا السياق، كما تدل تلك الخدعة المفضوحة أيضا على
مدى ما أصيب به هؤلاء العدميون من صدمة وإحباط في أعماق نفوسهم المهزومة
والمهزوزة، لما تبين لهم أن التقدم العلمي الذي يجادلون به بغير علم ويراهنون عليه
للدفاع عن طروحاتهم المضللة، يأتي في كل نتائجه القطعية المتقدمة التي
ثبتت صحتها بالتجريب والمشاهدة كحقيقة علمية مسلمة ومقرة علميا وعالميا (مثل كروية
الأرض وقوة الجاذبية وأطوار خلق الجنين في الرحم، وعملية التمثل الضوئي وتميز
الشفرة الوراثية للإنسان عن بقية الحيوان، وتفرد كل إنسان في الوجود بشفرته الخاصة
التي تختلف عن شفرة أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه).
كل هذه الحقائق العلمية، أتت مسفهة لأحلامهم ومحبطة
لمخططاتهم بإثباتها القطعي للمعجزة الخالدة، ووقوفها حجة قوية ودعامة راسخة في صف
الدعاة إلى دين الحق، ونشر الإيمان بوحدانية الخالق وربوبيته المطلقة للكون بشكل
غير مسبوق في تاريخ البشرية، بفضل شبكة الاتصال العالمية والفضائيات التي صيرت
الكون قرية صغيرة في فضاء فسيح كما يقر العامة، فضلا عن الخاصة من أصحاب العقول
المفكرة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، فإن التعصب ما
يزال يعمي أبصار وبصائر كل هؤلاء المتعالمين المرجفين الضالين عن كبر وتعصب وسبق
إصرار، ولم يكفوا عن الكيد للإسلام وكتابه المقدس، بدليل كل هذه المناورات
والمؤامرات والمغالطات، والصفحات المفتوحة لهم على شبكات التواصل الاجتماعي بالمئات
للتحليل وترويج الشبهات والأموال المرصودة لهم بالمليارات، من كل الأعداء في الداخل
والخارج على حد سواء، التي تستبيح كل الطرق والوسائل للتشكيك في صحة النص القرآني ومصداقيته
العلمية بالدس فيه والتقول عليه، لإبعاد الناس عنه بالتجهيل والتدجيل والتضليل، أو
إبعاده عنهم بالتشويش على كبار الدعاة إليه، ومحاولة تشويه سمعتهم، ومحاربتهم بكل
الوسائل حتى بالسجن والنفي والتصفية الجسدية أو الإقامة الجبرية في أحسن
الأحوال!!
ومع ذلك، يحبط الله كيد أعدائه جميعا في كل حين، ويجعلهم حجة لصالح دين
الحق وإظهاره على الدين كله في العالمين ولو كره كل الظالمين.. وليس حجة عليه كما
يخططون ويفترون؛ لأن الله قد يعمي أبصارهم ويطمس على قلوبهم، ويتخذ من بعضهم جنودا
لضرب الأعداء ولشفاء صدور قوم مؤمنين بخسران الكافرين، مصداقا لقوله تعالى: ((لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. وهو أعلم بالمهتدين)) (القصص 56). وهذا
ما يجعلنا نرى الآلاف والملايين من الكفار العقلاء يهتدون، ومثلهم من المسلمين
الجهلاء يضلون بملكهم في الاتجاه المعاكس ويشركون ويكفرون، وما يعلم جنود ربك إلا
هو. وقد يكون من جنوده السفه والبله والإملاء والجهل والكبر والتعصب والغباء.