نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريرًا يسلط الضوء على المستويات القياسية التي وصلت إليها
الديون العامة والخاصة في
الولايات المتحدة، وهو ما يشكل خطرًا على القدرة التنافسية الاقتصادية للبلاد وأمنها القومي؛ حيث قد يؤدي الوضع إلى انخفاض قيمة الدولار وارتفاع التضخم وتراجع النفوذ السياسي والعسكري للولايات المتحدة دوليًا، وبالتالي فإن البلاد ستواجه صعوبة في الحفاظ على رفاهية مواطنيها.
وقالت الصحيفة في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن أمريكا تبحر في بحر مجهول من الديون الفيدرالية؛ ولا يبدو أن الشعب منزعج من الأرقام الصارخة والحكومة غير قادرة على تغييرها.
وأوضحت الصحيفة أنه ليس هناك الكثير من الاختلافات الحزبية أو الأفضلية في هذا الصدد في السباق الرئاسي، فقد أشرف كل من دونالد
ترامب والرئيس
بايدن على إضافات متماثلة إلى ديون البلاد المتراكمة خلال فترة ولايتيهما، وقد كانت الاستجابة الوطنية لكليهما هي التغاضي عن هذا الأمر.
ومع ذلك، فإن التاريخ يقدم بعض الملاحظات التحذيرية حول عواقب التورط في الديون، فعلى مر القرون واجهت الأمم والإمبراطوريات التي راكمت الديون بلا مبالاة نهايات غير سعيدة عاجلًا أم آجلًا.
وبحسب "قانون التاريخ" الخاص بالمؤرخ نيال فيرجسون، فإن أي قوة عظمى تنفق على خدمة الدين أكثر مما تنفق على الدفاع لن تبقى عظمى لفترة طويلة، وهذا صحيح بالنسبة لإسبانيا في عهد هابسبورغ، وصحيح بالنسبة لفرنسا في العهد القديم، وصحيح بالنسبة للإمبراطورية العثمانية، وصحيح بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، وهذا القانون على وشك أن يوضع على المحك من قبل الولايات المتحدة ابتداءً من هذا العام بالذات. وبالفعل، فإن مكتب الميزانية في الكونغرس يتوقع أن الحكومة الفيدرالية ستنفق 892 مليار دولار خلال السنة المالية الحالية لمدفوعات الفائدة على الدين الوطني المتراكم البالغ 28 تريليون دولار، وذلك جزئياً بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، ما يعني أن مدفوعات الفائدة تتجاوز الآن المبلغ الذي ينفق على الدفاع وتكاد تضاهي الإنفاق على الرعاية الطبية.
وأشارت الصحيفة إلى أن
واشنطن كانت تضيف إلى الدين الوطني بوتيرة مقلقة، فمنذ وقت ليس ببعيد - أواخر التسعينيات - كانت ميزانية الحكومة الفيدرالية تحقق فائضًا بالفعل لبعض الوقت، أما هذا العام، فسيكون عجز الميزانية حوالي 1.9 تريليون دولار، وفقاً لتوقعات مكتب الميزانية في الكونغرس هذا الأسبوع.
وقبل اثنتي عشر سنة فقط؛ بلغ إجمالي الدين الحكومي حوالي 70 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وسيكون هذا العام مساويًا تقريبًا للناتج المحلي الإجمالي بأكمله (وأعلى من ذلك وفقًا لبعض المقاييس)، ومن المتوقع أن يصل إلى رقم قياسي يبلغ 106 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبحلول سنة 2028، وهو ما يضاهي الرقم القياسي الذي تم تحقيقه خلال الإنفاق الكبير لتمويل الحرب العالمية الثانية، وبحلول سنة 2034 يُتوقع أن يصل إلى 122 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق.
يتوقع مكتب البنك المركزي الأمريكي أن يؤدي ثقل الديون إلى خفض نمو الدخل بنسبة 12 بالمائة على مدى العقود الثلاثة المقبلة؛ حيث تزاحم مدفوعات الديون الاستثمارات الأخرى.
ولفتت الصحيفة إلى أنه لا يوجد شيء حتمي بشأن هذا المسار أو عواقبه، فقد كان من الممكن أن يكون عجز هذا العام أعلى من ذلك لولا حدود الإنفاق وتغييرات السياسة التي وُضعت في قانون المسؤولية المالية الذي أثار الكثير من الاستياء والذي دفعت به إدارة بايدن السنة الماضية، وقد ثبت على نطاق أوسع أن التحذيرات السابقة المتكررة بشأن الأزمات الناشئة عن ارتفاع الديون لا أساس لها من الصحة، حتى إن هناك نظرية اقتصادية تؤكد أن المخاوف بشأن عواقب الديون في غير محلها، لأن الدول التي تتحكم في عملاتها يمكنها دائمًا خلق المزيد من الأموال.. وبالتالي فهي لا تفلس أبدًا أو تضطر إلى التخلف عن السداد.
ونقلت الصحيفة عن ج. هـ. كولوم كلارك، مدير مبادرة النمو الاقتصادي بمعهد بوش - جامعة ساوثرن ميثوديست، قوله إنه حتى إذا كانت دولة ما تصدر العملة الاحتياطية الرئيسية، وحتى لو كانت الدولة هي القوة الجيوسياسية المهيمنة، فإن ذلك لا ينقذ الدول، بل إنها تفقد هذه المكانة.
ويشير كلارك، الذي كتب عن دروس التاريخ حول الديون والقوة الدولية، إلى الإمبراطورية الرومانية كتجربة تحذيرية مبكرة، فبعد إقامة أقوى إمبراطورية في العالم، بدأ قادة روما في القرن الثالث الميلادي في الإنفاق ببذخ على الإدارة الإمبراطورية والجيش، وقام الأباطرة بتمويل الديون الناتجة عن ذلك عن طريق خفض قيمة العملة، ما أدى إلى ارتفاع التضخم، وأضعف ذلك استقرار الإمبراطورية ودفاعاتها، وأدى إلى زوالها في القرن الخامس.
وأضافت الصحيفة أن إسبانيا بعد أن وطدت أقدامها في العالم الجديد، فقد مولت مغامراتها العسكرية وإمبراطوريتها التي امتدت عبر العالم بالاقتراض المكثف من الخارج وفرض ضرائب مرتفعة، ما أفقدها في النهاية مكانتها كأعظم قوة في أوروبا، وفي نظرة على تاريخ الأزمات المالية الدولية يشير الاقتصاديان كارمن رينهارت وكينيث روغوف في كتاب "هذه المرة مختلفة: ثمانية قرون من الحماقة المالية" إلى أن إسبانيا "تمكنت من التخلف عن السداد سبع مرات في القرن التاسع عشر وحده، بعد أن تخلفت عن السداد ست مرات في القرون الثلاثة السابقة".
وقد سارت فرنسا على نفس المسار تقريبًا وتخلفت عن سداد ديونها بشكل متكرر. وفي نهاية المطاف، أدى الإسراف في الاقتراض والإنفاق من قبل البلاط الملكي في فرساي إلى تفاقم الأزمة المالية وتراجع التصنيع الذي أدى إلى ثورة 1789.
وقد مرت أسرة تشينغ الحاكمة في الصين بدورة مماثلة وواجهت مصيرًا مشابهًا، فقد كانت قوة اقتصادية عالمية رائدة، لكن الإنفاق والاقتراض الخارجي في القرن التاسع عشر أدى إلى نقص الاستثمار اللازم لمواصلة التقدم.
وبحسب الصحيفة؛ فإن بريطانيا العظمى تقدم أوجه الشبه الأكثر إقناعًا، فقد أشرفت على الإمبراطورية الأكثر انتشارًا في العالم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل أن يؤدي الإنفاق على الحروب، بما في ذلك الحرب ضد الثورة الأمريكية، إلى ارتفاع الديون. وتعافت الإمبراطورية ولكن بحلول القرن العشرين وجدت أنها لم تعد قادرة على تحمل الإنفاق المطلوب للحفاظ على جيش وأسطول بحري لضبط الإمبراطورية وتمويل البرامج الاجتماعية المتنامية بسرعة، وبدأت الديون في مزاحمة الاستثمارات الأخرى، وأدى الضعف الاقتصادي إلى إضعاف قوة الجنيه الإسترليني، وتوقف الجنيه الإسترليني عن كونه العملة الاحتياطية الرائدة في العالم، وسرعان ما تراجعت الإمبراطورية البريطانية.
وبحسب كلارك، فإن الحدث الذي قد يؤدي إلى أزمة ديون في البيئة الحالية هو تخفيض التصنيف الائتماني لأمريكا أو رفض الممولين الدوليين الاستمرار في الإقراض، والولايات المتحدة ليست في هذا الموقف حتى الآن.
وأوضحت الصحيفة أن هناك أمثلة على الدول التي انسحبت من مستنقع الديون لتستقر ماليتها ومكانتها في العالم، فقد نجحت بريطانيا في تلك الحيلة قبل أن تتراجع، كما أن كندا والدنمارك والسويد وفنلندا خرجت جميعها من أزمات الديون الأخيرة لتعود إلى عافيتها المالية.
وذكرت الصحيفة أن الولايات المتحدة نفسها فعلت ذلك منذ وقت ليس ببعيد، ففي ثمانينيات القرن الماضي، كانت هناك مخاوف جدية بشأن الارتفاع السريع للديون، وفي خضم تلك المخاوف، نشر المؤرخ بول كينيدي من جامعة ييل عملًا كلاسيكيًّا عن العلاقة التاريخية بين القوة الاقتصادية والقوة الدولية بعنوان "صعود وسقوط القوى العظمى"؛ حيث إنه أرّخ لمصير الدول المهيمنة التي أصبحت مفرطة في الاستدانة، وأشار إلى أن الديون كانت تتراكم على الولايات المتحدة في وقت السلم كما لم تفعل أي قوة عظمى منذ فرنسا في ثمانينيات القرن الثامن عشر. لكن النظام السياسي الأمريكي استجاب بتغييرات في السياسة التي أنتجت تلك الفترة القصيرة من الفوائض في التسعينيات، وساعدت الاتفاقات اللاحقة التي أبرمها الحزبان في كبح العجز، ومع ذلك، فإن تحذير كينيدي اليوم من أنه بحلول القرن الحادي والعشرين "سيؤدي تراكم الديون الوطنية إلى تحويل مبالغ غير مسبوقة من الأموال في هذا الاتجاه" قد أصبح حقيقة.
وبينت الصحيفة أنه يتم حاليًّا رفع الدين بسبب ارتفاع مدفوعات الفائدة بالإضافة إلى حقيقة أن قانون الضرائب الحالي لا يوفر إيرادات كافية لتغطية الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية. تأتي هذه العوامل في وقت لا يريد فيه أي من الطرفين التطرق إلى هذه البرامج الاستحقاقية. وفي الوقت الذي يسعى فيه الجمهوريون إلى تخفيض الضرائب ويتعهد فيه الديمقراطيون بعدم زيادة الضرائب على الأسر التي تكسب أقل من 400,000 دولار سنوياً؛ يستخدم كلا الحزبين السياسيين الدين بشكل أساسي كذريعة للقيام بالأمور التي يودون القيام بها على أي حال.. على سبيل المثال يعارض بعض الجمهوريين المزيد من المساعدة لأوكرانيا بينما يسعى بعض الديمقراطيين إلى رفع الضرائب على الشركات والأثرياء.
واختتمت الصحيفة التقرير بالقول إن النتيجة النهائية هي تخفيض أهمية مناقشة العجز والدين بمفاهيمهما الخاصة، وسيتطلب تجاوز ذلك مستوى من الانضباط والتصميم من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما كان موجودًا في بعض الأحيان في الماضي، إلا أنه مفقود بشدة في واشنطن اليوم.
للاطلاع على النص الأصلي (هنا)