تبدو حركة المرور مزدحمة خلال "ساعات الذروة" في شوارع
مدينة طهران التي تجاوز عدد سكانها العشرة ملايين.. ورغم ما تتميز به شوارع
طهران من نظافة ومن احترام سائقيها لقانون الطرقات يكتشف الزائر والصحفي بسهولة
"المضاعفات السلبية" لعقود من الحصار الأمريكي والغربي لإيران على
اقتصاد البلاد وعلى المدينة... رغم العديد من "الإنجازات الطموحة" مثل
شبكة مترو الأنفاق وفي قطاعات النقل الجوي والتعليم والبحث العلمي والتكنولوجي
والهندسي...
وعندما نتحدث مع الديبلوماسيين الأجانب والخبراء والشباب تستمع جوابا
واضحا: "
إيران صامدة منذ 45 عاما وتتقدم في كل المجالات رغم الحصار الأمريكي
الغربي المفروض عليها منذ ثورة 1979 وقرار زعيمها آية الله الخميني غلق السفارة
الإسرائيلية وتسليمها إلى الزعيم ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية".
ويستحضر معك الخبراء الإيرانيون المستقلون والديبلوماسيون الذين
عملوا في طهران قائمة "الغلطات" التي لن تغفرها واشنطن وتل أبيب
والعواصم الغربية لقيادات "الثورة الإسلامية الإيرانية" وبينها "إعلان
القطيعة مع تل أبيب" والهجوم على السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر 1979
ثم الدخول في مواجهات مفتوحة مع أغلب "حلفاء" واشنطن في المنطقة وفي
العالم.. من فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا
واليمن إلى غرب إفريقيا وأمريكا اللاتينية غربا وأفغانستان و"خراسان الكبرى"
والصين وروسيا شمالا وشرقا..
فهل ستتمسك طهران بعد
الانتخابات الرئاسية الجديدة بسياسات
"تحدي النظام الإقليمي والدولي"؟
وبعد دخول الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة والضفة ودول المنطقة
شهرها التاسع هل تتابع طهران نفس
السياسة أم تعدلها لتنتصر "حسابات
الدولة" على "إيديولوجيا الثورة الإسلامية الشعبية" وأجندات مؤسسة "حراس الثورة" التي منحها
الدستور صلاحيات واسعة جدا داخليا وخارجيا وهو ما يفسر تزايد دور مؤسسة "فيلق
القدس" التابعة له والتي كان يتزعمها الجنرال قاسم سليماني؟
حسن حفيد الخميني في ندوة داعمة لطوفان الأقصى قبل أيام في طهران بحضور مرشحين للرئاسة
أغلب المؤشرات "العلنية الرسمية "لا توحي بتغييرات كبيرة
في سياسات طهران الخارجية ولا في الخطاب الانتخابي لأبرز المرشحين للرئاسة.. ورغم
كثرة المتنافسين لخلافة الرئيس إبراهيم رئيسي فإنهم جميعا من "نفس المنظومة
الثورية"، سواء صنفوا ضمن الإصلاحيين أو المحافظين أو الوسطيين..
"غزة المظلومة الصامدة"
ووطنيا لعل من أبرز هذه المؤشرات سلسلة الكلمات والخطابات التي ألقاها
"القائد العام ومرشد الثورة على خامنائي" منذ وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي
وبصفة أخص في سلسلة الملتقيات الفكرية السياسية التي تنظم منذ أسابيع في إيران
"دعما لطوفان الأقصى" ولـ "غزة المظلومة والصامدة" وإحياء
للذكرى 35 لوفاة الإمام الخميني..
أهم رسالة كانت حاضرة.. "تغيير رئيس الجمهورية لا يؤثر في
توجهات الدولة ومؤسساتها" المدنية والعسكرية..
الديبلوماسي والخبير الإيراني مهدي شريعة مدار مع مندوب "عربي21" كمال بن يونس
وحسب تصريح أدلى به الديبلوماسي الإيراني مهدي شريعة مدار لـ
"عربي21"،
فإن "السياسات الكبرى في إيران لا تتغير كثيرا بتغيير رئيس الجمهورية، لأن
الدستور وواقع موازين القوى في البلاد يعطيان صلاحيات واسعة لمؤسسات عديدة"
بينها البرلمان ومؤسسة "المرشد قائد الثورة " والمؤسسات التابعة له
مباشرة بينها "قوات النخبة" المعروفة منذ ثورة 1979 بـ "حراس الثورة" فضلا عن
الهيئات المكلفة بـ "تشخيص مصلحة النظام" و"مجلس صيانة الدستور "...
التناقضات بين "المحافظين" و"الإصلاحيين"؟
في نفس السياق أورد الخبير الإيراني في الاتصال والشؤون السياسية
حامد غاشغاوي في حديث خص به
"عربي21" أنه لا يوافق على "التصنيفات
الغربية لـ "السياسيين الإيرانيين
المتنافسين في الانتخابات إلى "تيار محافظ" و"تيار إصلاحي "...
ويعتبر غاشغاوي أن هذا التصنيف "لا يخلو من تبسيط ويمكن أن يوقع
أصحابه في خطأ منهجي" رغم إقراره بوجود "اختلافات في وجهات النظر" بين عدد من أبرز المتنافسين
للوصول إلى كرسي الرئاسة وتعويض إبراهيم رئيسي..
وأورد هذا الخبير الإيراني الشاب في تصريحه لـ
"عربي21" أنه
من خلال تعامله عن قرب مع عدد من كبار صناع القرار في طهران بكل توجهاتهم ومع فريق
كل منهم فإنه لا يوافق على "التقسيم المتسرع لساسة إيران بين محافظين واصلاحيين
ووسط"... ورجح أن يكون السباق كبيرا في الانتخابات بين رئيس البرلمان الحالي
محمد باقر قاليباف وشخصيات مثل الديبلوماسي وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي
سابقا سعيد جليلي.
المرشح البارز لخلافة رئيسي محمد باقر قاليباف يفتتح مؤتمر دعم طوفان الأقصى
وكان جليلي قاد المفاوضات النووية مع الدول الست العظمى وحقق نجاحات أكسبت
إيران موقفا عربيا خلال صراعها مع الغرب قبل عشرة أعوام. كما عين سعيد جليلي عضوا
في "مجمع تشخيص مصلحة النظام" من قبل المرشد الأعلى الثورة.
في نفس الوقت قد يجد "المرشح الأوفر حظا"، أي رئيس
البرلمان محمد باقر قاليباف، نفسه في موقع التنافس مع شخصيات سياسية وطنية لها
"نفس الرصيد السياسي والامني"، بما في ذلك الخبرة العسكرية خلال حرب
الثمانينات مع نظام صدام حسين وحلفائه... ثم العلاقة المتميزة مع قوات النخبة و"مؤسسة
حراس الثورة " والبرلمان...
تنافس حقيقي
في المقابل يعتقد خبراء وسياسيون آخرون أن "التنافس بين
المحافظين والإصلاحيبن حقيقي".. ويستدلَ هؤلاء بالخلافات التي برزت خلال
الثلاثين عاما الماضية بين رؤساء "إصلاحيين" بينهم محمد خاتمي (1997 ـ 2005)
والرئيس حسن روحاني (2013 ـ 2021) ورؤساء محافظين بينهم الرئيس المثير للجدل و"الشعبوي"
أحمدي نجاد ( 2005 ـ 2013) ورؤساء من "يمين الوسط" أو "وسط
اليمين" مثل الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي (2021 ـ ماي 2024) والرئيس الأسبق وأحد
أبرز زعماء ثورة 1979 الهاشمي رافسنجاني ( 1989 ـ 1997) وسلفه آية الله على
خامنائي (1981 ـ 1989) الذي تولى خطة المرشد العام بعد دورتين رئاسيتين.. ويكون
بذلك الشخصية الإيرانية التي تتصدر المشهد عمليا منذ حوالي 43 عاما... مع عدد من
رفاقه القدامى زعماء الثورة في سجون الشاه رضا بهلوي ومحلات التعذيب النابعة لقوات
"السافاك" الشهيرة ("البوليس السياسي" المكلف التعذيب.. مثلما
يشهد على ذلك "متحف العبرة" وسط طهران.. والذي أنجز على أنقاض
"زنزانات التعذيب والإعدام" قبل ثورة 1979..
في هذا السياق تقدم أسماء رموز من "التيار الإصلاحي"
المشاركين في السباق أبرزهم مسعود بز شكيان وزير الصحة في عهد حكومة الرئيس
الإصلاحي محمد خاتمي الثانية وعضو مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) مرارا عن منطقة
تبريز شمالي البلاد..
لكن الديبلوماسي والخبير الإيراني مهدي شريعة مدار أورد في حديث لـ
"عربي21" أن "حظوظ التيار الإصلاحي ضعيفة إذا لم يتفق رموزه على
مرشح واحد وإذا لم يضعوا حدا لخلافاتهم".
كما توقع الخبير الإيراني محمد مهدي يعقوب في تصريح لـ
"عربي21"
أن يدعم الناخبون أكثر المرشحين الذين يعلنون مجددا "الوفاء لثوابت الثورة
وبينها قضايا تحرير فلسطين والقدس والتحالف مع "محور المقاومة" في كامل
المنطقة".
وهنا تتضاعف حظوظ رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف والمرشح
"الأصولي المعتدل" مصطفى بور محمدي وزير الداخلية والعدل سابقا والأمين
العام لجمعية "رجال الدين المجاهدين" ورئيس توثيق الثورة الإسلامية
حاليا.
كما تبرز أسماء مرشحين يصنفهم البعض ضمن المحسوبين على "التيار
الأصولي المحافظ" بينهم البرلماني قاضي زادة رئيس مؤسسة" الشهيد والمحاربين القدامى وعلي رضا زاكاني عمدة طهران
منذ 2021 وسعيد جليلي أمين المجلس الأعلى للأمن القومي سابقا.
وبحكم تعدد الأسماء بين المرشحين "المحافظين" تتجه الأنظار
إلى الموقف الذي سوف تتخذه مؤسسة "المرشد الأعلى" أي احتمال ترجيح أحد
المترشحين سرا أو علنا... وهو ما سوف يؤدي إلى "تعبئة ماكينة حراس
الثورة" والأوساط الإعلامية والمالية والسياسية والأمنية والدينية لإنجاحه...
أو لتحسين حظوظه في الفوز..
وهنا يبرز مرة أخرى اسم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف... خاصة بعد
ما تردد عن استبعاد مرشحين من "الحجم الكبير" مثل رئيس البرلمان الأسبق
على لاريجاني والرئيس الأسبق أحمدي نجاد بسبب تقييمات "داخل المطبخ السياسي
المركزي" لبعض الغلطات الاستراتيجية التي اتهموا بارتكابها عندما كانوا في
مواقع اتخاذ القرار..
تخوفات ولكن..
ولا تخفي أطراف محلية ودولية عديدة توقعاتها بأن تغير طهران سياساتها
في المنطقة بعد "حادث الطائرة الرئاسية" التي حمل وزير الخارجية الأسبق
جواد ظريف مسؤولية سقوطها إلى الإدارة الأمريكية بسبب "سياسة العقوبات"
التي حرمت إيران من قطع الغيار للطائرات الأمريكية الصنع.. "
الديبلوماسي والخبير في السياسة الدولية الهادي أجيلي مع مندوب "عربي21" كمال بن يونس
وأورد الديبلوماسي البوسني
السابق في طهران حسن حامد بيغوفيتش في تصريح لـ
"عربي21" أن "خدمة
الأمن القومي الإيراني هو الهدف الأول لكل ساسة طهران "، لذلك فهو لا يستبعد "تغييرات في
سياسات إيران الداخلية والخارجية بعد الانتخابات الرئاسية الجديدة" وكذلك بعد
تزايد التهديدات لإيران وحلفائها في كامل المنطقة ولقوات النخبة التابعة لها في
لبنان وسوريا والعراق واليمن التي كانت ضحية" غارات إسرائيلية وأمريكية"
عنيفة..
لكن الديبلوماسي والخبير الإيراني في السياسة الدولية الهادي أجيلي
يعتبر أن" إيران تحكمها مؤسسات ولا تتأثر كثيرا بتغيير الأشخاص ورؤساء
الجمهورية" وهو ما فسر "الانتقال السلمي والسلس للسلطة بعد استشهاد
الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية أمير حسين عبد اللهيان ورفاقهما".
في نفس السياق صرح المستشار مهدي شريعة مدار في حوار مع
"عربي21"
بحزم بأن "رئاسة الجمهورية جزء من الحياة الدستورية والعملية المؤسساتية في
الدولة العميقة وليست الجزء الأهم في إيران"...
ويلتقي مع هذا التقييم مساندون للسلطات ومعارضون لها ممن يعتبرون أن "الدولة المركزية في إيران ما
تزال محكومة تقريبا بنفس "المنظومة الثورية المتعددة الأجنحة والأقطاب"...
والتي تتحكم في أهم أسسها مؤسسة المرشد الأعلى والهيئات التابعة لها وبينها
المؤسسات الاقتصادية والأمنية والسياسية التابعة لـ "حرس الثورة" وشركائهم
داخل أجهزة الدولة وعالم المال والأعمال، وهم جميعا مؤتمنون على مهمة "المحافظة على الأمن القومي الإيراني أولا"..