مقالات مختارة

يا غافلا وله في الدهر موعظة!

يواصل الاحتلال الإسرائيلي حربه على قطاع غزة لليوم الـ245 على التوالي- الأناضول
من الطبيعي أن تطغى أخبار مأساة غزة المستمرة، على سائر ما يجري داخل المناطق الفلسطينية الأخرى؛ إلا أنه من المستحيل فصل تداعي الحرب العدوانية هناك عمّا يعانيه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية – حيث يواجهون اعتداءات سوائب المستوطنين، وكتائب جيش الاحتلال غير المسبوقة بوحشيتها وبدمويتها – وفصلها عما يعانيه الفلسطينيون داخل إسرائيل.
يواجه المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل مرحلة سياسية خطيرة ومفصلية في حياتهم، من شأنها، ما لم تجابه بإصرار حتى النجاح، أن تقوّض احتمالات بقائهم المستقر في وطنهم؛ وتهدّد بنسف هياكل البنى الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية التي نجحت الأقلية الفلسطينية، الباقية في أرضها عام 1948، بإنشائها وتحويلها، بحنكة وبحكمة، إلى أحزمة واقية وأطُر جامعة، وإلى محركات ناظمة في مسيرة بعث الهوية واستعادة الثقة وإحياء الأمل.

من المحبط ومن المستفز أن تستمر عمليات القتل والتدمير الإسرائيلية طيلة ثمانية أشهر من دون أن تنجح البشرية ودول العالم ومجتمعاتها المتحضّرة والمتقدّمة بوقف العدوان، وإنقاذ أهل غزة من الموت ومن النزوح والتشرد. ومن المؤسف والمستفز أن يحصل كل هذا ولا يستطيع ما يسمّى بالعالم الإسلامي، بقياداته ومقدّراته وبجميع شرائحه، أن يؤثر في ردع إسرائيل، عدوّتهم في العقيدة وفي حروب المَهانة؛ أو بالتأثير على أمريكا، حليفتها في العدوان وفشلهم في إجبارها على أن توقف حربها المدمّرة وقتل وتشريد أبناء أمّة الإسلام.

ومن المخجل والمستفز أن تستمر إسرائيل باحتلالها لأرض فلسطين وبعدوانها السافر الأخير على غزة، من دون أن تحسب حسابا لموقف الدول العربية، التي في أحسن الاحوال ما انفكت تظهر «عجزها» عاريا، بمشهد يدعو إلى البكاء حينا وإلى التقيؤ أحيانا؛ وبعضها، دول عربية إسلامية، يُستدلّ بسهولة، من رياء حكامها ومن خرائط مصالحهم المفضوحة، أنهم متواطئون مع مشروع إسرائيل وأمريكا، ويتمنّون مثلهما التخلص من هذا الكابوس الذي اسمه فلسطين، وإزالة قضيتها عن «موائد رحمانهم ومن موالدهم».

من المخجل والمستفز أن تستمر إسرائيل باحتلالها لأرض فلسطين وبعدوانها السافر الأخير على غزة، من دون أن تحسب حسابا لموقف الدول العربية
بعد كل بيان تنديد وشجب تطلقه «جامعة الدول العربية» أو «منظمة التعاون الإسلامي»، أكاد أسمع بين سطوره حكام هذه الدول وهم يتمتمون في صلواتهم كما يملي عليهم شيخهم نتنياهو ووعّاظه ويرددون مثلهم في السر: فلتكن غزة الذبيحة أولا، وبعدها سوف تنخّ الضفة المحتلة، ثم لن يبقى أمام «مملكة إسرائيل» إلا مهمة واحدة أخيرة هي تدجين من عصوا نداءات «جيش الإنقاذ»، تلك الحفنة من «أيتام العرب»، الفلسطينيين الذين بقوا أشواكا في حلق إسرائيل وعثرة أمام تحقيق أحلام أنبيائها. «لقد حان الوقت»، هكذا يقول حكام إسرائيل الجديدة للمواطنين الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر، «فإمّا أن تقبلوا أقفاصنا وتعيشوا كما عاشت «النمور في يومها العاشر»، أو أن تكتبوا، ككبار شعرائكم، معلقاتكم على «أعواد المشانق»، أو، ربما، أن تستكملوا «تغريبة» أجدادكم وتمضوا على وقع حداتكم نحو الشرق وإلى المهاجر. يستبشر «المتشائلون» والواثقون بدنوّ الفرج، والمؤمنون بحتمية نصر صاحب الحق والقضية العادلة، بمواقف بعض الشعوب العربية والإسلامية، التي عبّرت بعض قطاعاتها عن وقوفها مع غزة ونصرتها؛ فهذه الشعوب ليست كملوكهم وأمرائهم وحكامهم، هكذا يؤمن المتفائلون. كنت أتمنى أن أشعر وأن أفرح مثلهم، لكنني أعرف أن هذه الشعوب تعيش على دين ملوكها، ووقع سياط أمرائها ونبض حكامها.

قد تفور، كما الشهوة، بعد «غزّةٍ» في خاصرة كرامتها المتخثرة، التي حفظها تاريخ أمة تربّت على «طبائع الاستبداد» ولم تهتدِ إلى دين يحررها ويوحدها منذ يوم «سقيفة بني ساعدة». إنها أمة عاشت في ثنايا «الملل والنحل» وتحت عباءات «أمراء مؤمنين» جاءوا فذَبحوا وذُبحوا وكَفّروا وكُفّروا، وليس جديدا عليها «اغتيال الصحابة والأولياء.. فتاريخها كله محنة.. وأيامها كلها كربلاء». هكذا علّمتنا بطون الكتب وهكذا ردّدت «بنات الصحارى» في بكائيات من سلفوا ومرثيات من درسوا «فيا غافلا وله في الدهر موعظة، إن كنتَ في سِنةٍ فالدهرُ يقظان». يجب أن يقال هذا الكلام لغزة ولرام الله، وللقدس طبعا؛ لكنني أقوله اليوم للناصرة ولعكا ولأم الفحم ولكل الأهل في الداخل، فنحن نقف على حافة الهاوية وأمامنا جراحات غزةَ عِبر، وعبرات القدس دروس، فلنتذكر أن «قصبٌ هياكلنا، وعروشنا قصبُ» ووحدنا سنواجه «الغول والعنقاء والخل الوفي».

قد يكون التفاؤل في هذه الأوقات الحرجة بعد انتشار اليأس بين الناس، أوجب وأكثر الحاحا؛ لكنني أؤمن «بأمر مبكياتي» وأشعر بأن الأوضاع داخل إسرائيل تتجه نحو الأسوأ والأخطر بعد أن أكملت القوى اليمينية المتطرفة والفاشية المستشرسة بهدوء عملية إطباق سلطتها المطلقة على معظم مرافق الدولة. ففي ظل الحرب على غزة والضجة حولها، وما استحوذته وما زالت من انتباه عام وانشغال المجتمع اليهودي بتداعياتها، استغلّ أقطاب الحركات اليمينية، بعد أن اضطروا إلى تجميد خطوات انقلابهم مع تعاظم المعارضة الشعبية والمؤسساتية لمؤامراتهم، استغلوا الأجواء التي نشأت بعد السابع من أكتوبر واستأنفوا تنفيذ مشروعهم، خطوة وراء خطوة، حتى أنجزوا معظمه.



لقد لاحظ الكثير من المتابعين أن أصحاب مؤامرة الانقلاب يتقدّمون ويحتلّون المواقع، مستفيدين من أجواء الخوف التي انتشرت داخل المجتمع اليهودي بعد السابع من أكتوبر، ومستغلّين حالة الجنوح الشديد بين اليهود، نحو استعادة مكانة قوتهم العسكرية وقوتهم على الردع التي خسروا. والنتيجة كانت أن المناخ السياسي العام في الدولة بات جاهزا لتنفيذ مشروع تدجين المواطنين العرب وتأديب قياداتهم ومؤسساتهم، وتحويلهم إلى رعايا «إيجابيين» أو، إذا ما قاوموا ورفضوا، تدفيعهم الثمن و»تحييدهم»؛ وهو المصطلح الذي بدأ الإعلام العبري يطلقه على من يقتله الجيش أو أذرع قوات الأمن الإسرائيلية الأخرى في المواجهات مع الفلسطينيين، وتستعمله أيضاَ، عن جهل وعن حماقة، بعض وسائل الإعلام العربية.

أعيش في قلق مطّرد وأقرأ كل يوم أوراق عمل وتقارير تعدّها مؤسّسات بحثية محلية، ومعاهد دراسات وباحثون أكاديميون، حيث يأتون فيها على تشخيص مفصّل للمخاطر التي نواجهها، نحن الفلسطينيين في الداخل، وشروحات حول مآرب حكومة نتنياهو السياسية النهائية، لكنني لم أجِد في معظمها مقترحات لحلول يقدّمها هؤلاء الباحثون لمواجهة المخاطر الموصوفة بدقة وبشمولية.
وبلغة مبسطة وواضحة أسأل نفسي أولاً وجميع من بحث وحلل أزمتنا الراهنة: ماذا علينا أن نفعل إن قررت حكومة إسرائيل غدا تقليص وسحب حقوقنا الأساسية ورهنها بقائمة شروط تعتمد مبدأيّ الولاء للدولة اليهودية والندّية بين طرفي معادلة المواطنة، أي حقوق مدفوعة مقابل واجبات متمّمة، كما تحدّدها قوانينهم العنصرية وعقيدتهم المبنية على مبدأ الفوقية اليهودية.

لم تعُد هذه مجرد خرافات أو تكهنات يستحيل حدوثها، فنحن على أبواب هذه المرحلة وما قد تفضي إليه من مواجهات حقيقية. سؤالي موجه لجميع قياداتنا ونخبنا الذين يؤثرون، في هذه الظروف عدم التطرق إلى هذه القضية، بغير خيار المواجهة في الساحات وفي الحارات، حين يتحدث عنه البعض كمعطى محتوم علينا، في ظل أي خيارات أخرى. وحتى من يتحدث عن ضرورة المواجهة لا يوضح ما شكلها وما هي حدودها، علما أنه سيكون أخطر الخيارات من منظوري؛ فوفق سياسة «التحييد» التي رأيناها تنفذ أيضا في بعض مواقعنا في الداخل، سنكون نحن، الأعداء، ضحاياها المؤكدة، فهل لدينا غير احتمال المواجهة؟ وهل سنسمع مواقف التيارات السياسية البارزة بيننا، أعني التيار الإسلامي بشقيه الشمالي والجنوبي، والتيار القومي بتفرعاته العديدة والتيار الجبهوي، إزاء علاقة المواطنين الفلسطينيين مع إسرائيلهم الجديدة، وهل ترى هذه التيارات أننا نواجه اليوم خطرا وجوديا، أم تعتقد أنها مجرد غيمة سوداء ستبدّدها صلاة وشعار وأغنية؟
سؤال/نفير أطلقه وشعبي وننتظر الجواب؛ فهل من مجيب؟

المصدر: القدس العربي