ما
أن أعلن جو
بايدن مبادرة بشأن ما يحدث في قطاع
غزة، حتى اصطفت الدول
العربية خلف
مبادرته مطالبة بالاستجابة لها، وهي مبادرة وُلدت برؤية
إسرائيلية -كما تناقلت
الأوساط الأمريكية- وماتت يومها بخطاب إسرائيلي وأيضا أمريكي، إذ ما زال
الإسرائيلي يؤكد ألا بديل عن استمرار القتال، كما أعلن الأمريكان تأييدهم للقضاء
على قيادات
حماس وعدم قبول استمرار سيطرتها على القطاع، فأي مبادرة هذه التي
يريدون للحركة أن توقع عليها؟!
الوضع
الذي نحن أمامه هو ما يصفه "المهدي المنجرة" في كتابه "الإهانة في
عهد الميغا-إمبريالية" بـ"الذل (..) فقد غدت المهانة شكلا للحكم ونمطا
لتدبير المجتمعات وطنيا وعالميا" ويتابع المهدي بقوله: "تنبع الإهانة من إرادة واعية في التعدي على كرامة الآخرين وليس فقط من الهيمنة". وكان
يقصد بالميغا-إمبريالية "الإمبريالية العظمى بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية وتحالفاتها ذات الهندسة المتنوعة".
بيت
القصيد في كلام الدكتور "المنجرة" أن الإهانة نابعة من إرادة واعية في التعدي
على كرامة الآخرين، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة بالحكام والشعوب على السواء،
يهينوننا بقصد ودون مواربة ليكسروا عزمنا المنهك، ويستبدوا بمقدَّراتنا قبل
قرارنا، ثم يريدون بسط هذه المهانة والهيمنة على الفصائل التي أهانتهم للمرة
الأولى منذ عشرات السنين، وصفعتهم صفعة تاريخية ستظل محفورة على وجوههم قبل أن
تكون منقوشة بحروف من نور في حقبة مظلمة.
يريد الأمريكيون للمقاومة أن توقع على ورقة الهزيمة السياسية، بقبول وقف مؤقت لإطلاق نار "قد يصير دائما" في حال استمرت المفاوضات بشكل جيد! إذا يمكن للإسرائيلي أن يعطل المفاوضات بأي حجة بعد استلام أسراه، ويعيد حربه الوحشية على القطاع لتهجير الفلسطينيين في النهاية من فلسطين كلها وإخلائها من سكانها الأصليين، وهذه النتيجة الطبيعة للمبادرة الأمريكية
يريد
الأمريكيون للمقاومة أن توقع على ورقة الهزيمة السياسية، بقبول وقف مؤقت لإطلاق
نار "قد يصير دائما" في حال استمرت المفاوضات بشكل جيد! إذا يمكن
للإسرائيلي أن يعطل المفاوضات بأي حجة بعد استلام أسراه، ويعيد حربه الوحشية على
القطاع لتهجير الفلسطينيين في النهاية من فلسطين كلها وإخلائها من سكانها
الأصليين، وهذه النتيجة الطبيعة للمبادرة الأمريكية التي أعلنت الدول العربية أنها
تدعو إليها، ثم أعلنت الدول السبع دعمها للمبادرة مع مطالبة الدول الإقليمية بأن
تضغط على حماس لقبولها، رغم أن لا أحد وضع الاحتلال الهمجي أمام مسؤوليته بقبول
المقترح السابق الذي رعته الولايات المتحدة وقبلته المقاومة الفلسطينية ورفضه
الاحتلال، فأي اختلال في موازين العدالة هذا!
المثير
للانتباه أن جميع من دعا الفلسطينيين إلى قبول الاتفاق يتجاهلون أمرين؛ أولهما أن
المقترح الأمريكي لم يصل إلى الفلسطينيين، بحسب تصريحات حسام بدران مساء أمس
الاثنين، ويطالبونهم بالتوقيع "على بياض" كما نقول في مصر، ومعلوم حجم
الانحياز الأمريكي للجانب المحتل والمجرم. وثانيهما، وهو الأهم، أن الاحتلال نفسه
يرفض المقترح الأمريكي، إذ لا يمكن فهم الاستدراك الإسرائيلي لكلام بايدن ووصفه
بغير الدقيق، بأنه قبول بالمقترح، فلماذا يدعون الفلسطينيين إلى قبول اتفاق لم
يقبله الاحتلال أصلا رغم انحياز النص له؟!
ربما
تحتاج الدول المعنية بالشأن الفلسطيني، وخاصة الدول "الضاغطة" على حماس،
إلى أن تفهم طبيعة المكاسب التي خرجت بها المقاومة يوم السابع من تشرين الأول/
أكتوبر، والمكاسب التي حافظت عليها بعدم تمكين العدو من أسراه أو المساس ببنية
المقاومة، أو قدرتها على السيطرة المدنية في كل بقعة انسحب الاحتلال منها، ما يعني
هزيمة سياسية كاملة و"مذلة" لكل الأطراف التي دعمت (في السر والعلن)
العدوان الهمجي البربري على القطاع، فضلا عن الهزيمة الاستخباراتية لكل دولة عظمى
أو إقليمية حاولت جمع معلومات استخباراتية عن الأسرى الإسرائيلين ولم يجدوا سوى
السراب.
هذه
القدرات الهائلة في التدبير أولا والصمود ثانيا، فضلا عن البسالة في المواجهات
المباشرة رغم فارق القدرات والإمكانيات، تجعلنا نتساءل بحقٍّ عن مقدار كفاءة العقل
الذي يدعو طرفا لا يزال ممسكا بمقاليد الأمور إلى تقديم تنازلات! وما الدافع وراء
الضغط على المقاومة سوى "الذل" الذي وصفه الدكتور المنجرة!
ربما
يكون الدافع الخفي من الضغط على المقاومة، أنها استطاعت تحطيم كل الأساطير
السياسية والعسكرية في المنطقة، فإسرائيل ليست جيشا لا يُقهر، وقوتها العسكرية غير
رادعة للمقاومين، خاصة في فلسطين ولبنان، بل هي المردوعة خاصة على الحدود الشمالية
مع حزب الله الذي يرفع من سخونة قصفه بما أشعل معه الغابات، بل الأهم أن الولايات
المتحدة نفسها تكبح الهجوم الإسرائيلي على حزب الله بعدما شاهدت خوار وضعف الجنود
الإسرائيليين بعتادهم في مواجهة مقاومين حفاة أو بـ"شبشب نابولي"،
الفلسطينيون هم من يُكسبون غيرهم الوزن في المنطقة، لا العكس، فمثلا لم يهاتِف بايدن السيسي إلا بعد ستة أشهر من وصوله إلى الرئاسة (في أيار/ مايو 2021)، على خلفية تصعيد عسكري بين المقاومة والاحتلال في قطاع غزة، ولا تحتل مصر مكانتها في المنطقة وكذلك الأردن إلا بسبب وجودهما الحدودي مع فلسطين المحتلة، وكذلك تكتسب قطر جزءا مهما من مكانتها المتزايدة بسبب استضافتها لمكتب حركة حماس
كما
أن مقولة أمريكا ستحارب إذا هوجمت إسرائيل أصبحت مقولة غير مخيفة لليمنيين
والعراقيين ومن قبلهم اللبنانيين، فهذه الأساطير كلها تحطمت، وتحطمت معها أسطورة
كبرى روجها الزعماء العرب؛ عنوانها أننا لا نستطيع فعل شيء للفلسطينيين في ظل
القوة الإسرائيلية والدعم الأمريكي، وهو ما تحطم على مدار الأشهر الثمانية
المنصرمة.
كذلك
قد يكون هناك دافع خفي آخر، يتعلق بخوف حكام المنطقة من ذياع صيت حركة تحرر وطني،
وهي حركة تقوم بتغيير قيادتها بصورة انتخابية، وتكتسب مكانتها السياسية من رضا
مجتمعها عنها، وهي صورة مغايرة لطبيعة حكمهم القسري دون انتخابات حقيقية، فضلا عن
أنهم جاثمون فوق أنفاس شعوبهم دون رضا داخلي، بل بدعم خارجي محض، لأجل ذلك يخشى
حكام المنطقة من الانتصار السياسي للمقاومة لأنها ستزيد من تعرية وضعهم السياسي
والاجتماعي داخليا.
بَقِيَ
أن نذكِّر الفلسطينيين والوسطاء الذين يتعاملون معهم بالوزن الحقيقي للطرفين؛ الفلسطينيون
هم من يُكسبون غيرهم الوزن في المنطقة، لا العكس، فمثلا لم يهاتِف بايدن السيسي
إلا بعد ستة أشهر من وصوله إلى الرئاسة (في أيار/ مايو 2021)، على خلفية تصعيد
عسكري بين المقاومة والاحتلال في قطاع غزة، ولا تحتل مصر مكانتها في المنطقة وكذلك
الأردن إلا بسبب وجودهما الحدودي مع فلسطين المحتلة، وكذلك تكتسب قطر جزءا مهما من
مكانتها المتزايدة بسبب استضافتها لمكتب حركة حماس على أراضيها، ولو أغلقته كما
يُقال فإن هذا الجزء المهم ستفقده من تأثيرها الإقليمي السياسي وسيتحول إلى الدولة
الجديدة التي ستستضيف الحركة. لذا على الفلسطينيين أن يدركوا أنهم من يمنحون غيرهم
الوزن، وعلى الأطراف الأخرى أن تدرك ذلك أيضا، فلا تضغط إلى الدرجة التي تجعل
الفلسطينيين يديرون ظهورهم عنها، وبالتالي ستتجاهلهم منظومة "الميغا-إمبريالية".