كتب

المواطنون يتحملون أخطاء دولهم بدرجات متفاوتة.. قراءة في كتاب

ما دمنا نرى أنفسنا جزءا من دولتنا، ونعتزم المساهمة في قدرتها على حكمنا، فنحن إذن أعضاء حقيقيون فيها، ونتحمل تبعات المسعى الجماعي الذي اخترنا في النهاية أن نكون جزءا منه
الكتاب: "مواطنون مسؤولون ودول غير مسؤولة، هل يتحمل المواطنون أخطاء دولهم؟"
المؤلف: آفيا باسترناك
المترجم: عومرية سلطاني
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر


بعد الحرب العالمية الثانية بدأت خطة التعويضات الخاصة بضحايا الهولوكوست التي تحملتها ألمانيا الغربية، وبحلول العام 2001 كانت مجموع ما دفعته ألمانيا قد بلغ 61.5 مليار دولار أمريكي. وفي العام 2005 كان مجمل ما دفعه العراق كتعويضات عن الأضرار والخسائر التي تسبب بها غزوه الكويت 52.4 مليار دولار أمريكي، لكن في المقابل لم تدفع أي دولة تعويضات للعراق  والمواطنين العراقيين عن الأضرار والدمار الذي لحق بهم في أثناء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.

تحميل الدول المسؤولية عن الأفعال الضارة التي تتسبب بها أمر بدهي في القانون الدولي، الهدف منه تنظيم سلوك الدول، لكن الدول بالإضافة لممثليها الرسميين تتألف كذلك من الشعوب، وحين تلقى المسؤولية على دولة ما فإن مواطنيها يتأثرون أيضا، لأن التعويضات التي تدفعها لضحاياها مصدرها الخزينة العمومية، ما يعني أن مسؤوليتها في معالجة أفعالها الضارة قد توزعت على شعبها توزيعا تلقائيا.يهدف كتاب، أستاذة الفلسفة السياسية، آفيا باسترناك إلى استكشاف الكيفية التي يجب أن يدار بها توزيع المسؤولية، فهي لا تؤيد المقاربة السائدة اليوم في السياسة الداخلية والدولية، حيث يلقى العبء على كاهل مواطني الدولة المخالفة تلقائيا، كما لا تؤيد من يقولون أن توزيع العبء لا بد أن يستهدف أعضاء الدولة المشاركين بشكل مباشر في صياغة سياساتها، وترى أن هناك طريقا ثالثا يُعنى بالاعتبارات العملية والمعيارية معا.

المواطنة القصدية

تناقش باسترناك في كتابها ثلاثة مواضيع أساسية؛ الأول تقديم تسويغ جديد للواجب الملقى على عاتق المواطنين حيال المشاركة في الالتزامات "العلاجية" التي تتبناها دولتهم استنادا إلى مشاركتهم في دولتهم. والثاني تدرس فيه تطبيق هذا المسوغ على مواطني الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية. والثالث تبحث فيه افتراض أن توزيع المسؤولية في الدولة يجب أن يراعي الحالة الخاضعة للدراسة وأن يستند إلى بيانات كافية عن طبيعة الدولة وعلاقتها بمواطنيها.

بغض النظر عن مستوى اللوم الشخصي الذي يتحمله كل منهم، فإنه يمكن للمواطنة القصدية أن تكون المسوغ الذي يستند إليه حين يلقى العبء على عاتق المواطنين بعمومهم.
وتقدم باسترناك فكرة عما تسميه "المواطنة القصدية" حيث المواطنون القصديون هم الذين يؤدون الأدوار المختلفة التي تخصصها لهم دولتهم مثل دفع الضرائب، والامتثال للقانون، والتصويت، والخدمة في الجيش..إلخ. وتقول أنهم حين يتصرفون على هذا النحو، يملكون "مقصدا تشاركيا"، إذ يرون أنهم يسهمون، أو يحتمل أن يسهموا في استمرار الفاعلية المؤسسية لدولتهم، سعيا لتنفيذ خططها، وبهذا فهم يشاركون في مجموعة واسعة جدا من سياسات دولتهم، سواء قدموا مساهمات هامشية، أو اختلفوا معها أو احتجوا ضدها علنا، ما داموا يدعمون دولتهم فإنهم يشاركون في السياسات التي تولدها عملية اتخاذ القرار.

وبغض النظر عن مستوى اللوم الشخصي الذي يتحمله كل منهم، فإنه يمكن للمواطنة القصدية أن تكون المسوغ الذي يستند إليه حين يلقى العبء على عاتق المواطنين بعمومهم. لكن باسترناك تلفت إلى أن التوزيع القائم على المواطنة القصدية غير قابل للتطبيق إلا حين تكون المقاصد التشاركية لدى المواطنين حقيقية، وهذه تتطلب عدم إكراه المواطنين على المشاركة في دولتهم ضد إرادتهم، وأن يملكوا التصرف وفق مسوغاتهم الخاصة. لذلك تدرس باسترناك العلاقة بين المواطنين ودولهم في النظم غير الديمقراطية والالتزامات التي تنبع منها، وأنماط المشاركة المدنية فيها، لفحص نطاق المواطنة القصدية فيها، ومن ثم تبيّن إلى أي مدى يتحمل مواطنوها مسؤولية التكاليف العلاجية للأضرار التي تتسبب بها دولهم، لتخلص إلى أن المواطنة القصدية ليست منتشرة في القسم الأكبر من الدول غير الديمقراطية، وبالتالي يصعب تسويغ أثر التوزيع في تلك الدول.

تقدم باسترناك نموذجا لتوزيع مسؤولية الدولة داخل الدولة عبر فحص المسوغات التي تبرر اللجوء إلى التوزيع غير التناسبي أو المتساوي للتكاليف، وهي المسوغات التي تتصل بالمشاركة القصدية؛ وتشمل التفويض الديمقراطي، والمنفعة المتأتية من الأضرار المرتكبة، وامتلاك قدرة خاصة على تصحيحها.

وأوضحت في الوقت نفسه أن هذه العوامل ليس لها في العالم الحقيقي غير تطبيقات محدودة. ثم تقترح عملية تعيّن من خلالها الكيفية التي يجب أن تتوزع بها مسؤولية الدولة بين مواطنيها استنادا إلى أي مدى يمكن تحديد مستوى اللوم المستحق على الفاعلين الرئيسيين داخل الدولة، وتقييم نطاق المواطنة القصدية في الدولة، وطبيعة النظام الذي ارتكب الخطأ. وتقول أنه من المرجح أن تؤدي هذه العملية إلى استنتاج مفاده أن التوزيع المتساوي في الدولة الديمقراطية له ما يسوغه عامة، أما في العديد من الدول التسلطية فليس له من مسوغ يدعمه. وبالتالي لا بد من الموازنة بين حلول بديلة أخرى وبين خيار فرض العبء على مواطني الدولة، ومنها أن يترك العبء على كاهل الضحايا، أو ينتقل جزء منه إلى المجتمع الدولي.

مسؤولية بالوراثة

في إطار ما سبق تدعو باسترناك إلى مراجعة القانون الدولي العام، الذي" تتجاهل اجتهاداته الحالية الطريقة التي تتوزع بها مسؤوليات الدول عن أخطائها الماضية والحالية داخل الدولة". وتنتقد، على سبيل المثال، خطة الأمم المتحدة للتعويضات التي فرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت، حيث حاججت في أن خطة التعويضات هذه صيغت بطريقة ألقت العبء على كاهل العراقيين العاديين. وتقول أنه بالنظر إلى المستويات غير العادية للقمع السياسي في الدولة العراقية وقتها، وفي ضوء التكاليف الأخلاقية الباهظة المتوقعة جراء فرض العبء على السكان، كان ينبغي لمصممي الخطة أن يبحثوا عن مصادر بديلة للإيرادات، بل وكان عليهم أن يتركوا بعض التكاليف على عاتق الضحايا.

من الخطأ الافتراض أن المواطنين بالضرورة مسؤولون عما تفعله دولتهم باسمهم، ولا يعني ذلك أيضا في المحصلة أن تكاليف أخطاء الدول التسلطية يجب أن يستثنى منها شعوبها، لكن صانعي السياسة الدوليين مدينون، بحسب باسترناك، لمواطني هذه الدول بإيلاء الاعتبار الدقيق لكونهم لم يتورطوا في جرائم دولتهم.
من جهة أخرى وفيما يتعلق بتحميل الدول المسؤولية عن أخطائها التاريخية والآثار المترتبة عن ذلك ترى باسترناك أن المواطنين الحاليين، الذين يشاركون في دولتهم مشاركة قصدية، يتحملون حصة غير تناسبية من التزامات دولتهم حتى فيما يتعلق بالأفعال الخاطئة التي ارتكبت قبل ولادتهم، وحتى إن اختلفت هوية الدولة فإنهم يتحملون تبعات أخطاء الدولة السلف. لذلك، وبناء على تحليل المشاركة القصدية، تجد باسترناك أنه لا يمكن تحميل المواطنين المعاصرين هذا العبء إلا إذا كانت بنية النظام الداخلي لتلك الدولة، في الوقت الذي ارتكبت فيه الخطأ، تملك المسوغات التي تسمح بنقل تبعاتها إلى مواطنيها في ذلك الوقت.

تضيف باسترناك إن هذا التقييد له تداعيات مهمة على كيفية تحميلنا المسؤولية للدول في حالات تغير النظام، ولا سيما في الانتقال من النظم السلطوية إلى النظم الديمقراطية. ففي كثير من الأحيان تطلق النظم الديمقراطية الوليدة خطط تعويضات لمعالجة أخطاء النظم السابقة، بحيث تتوزع تكاليف هذه الخطط بين السكان في عمومهم. ومثل هذا التوزيع لا يمكن تسويغه دوما بالاستناد إلى إطار المشاركة القصدية. وعلى الرغم من ذلك يمكن القول، أحيانا، أن على جميع المواطنين بمن فيهم ضحايا النظام القمعي السابق، واجبا ينبع من التزاماتهم الترابطية السياسية، يقضي بأن يساعدوا دولتهم في استعادة الديمقراطية والمواطنة المتساوية والثقة في الدولة. وخلاصة الأمر، بحسب باسترناك، أنه ما من إجابة واحدة ووحيدة عن الأسئلة المتعلقة بما إذا كان المواطنون ملزمين بثمن الأخطاء التي ترتكبها دولتهم، ولماذا، إذ تتطلب الإجابات عن هذه الأسئلة التعامل الدقيق مع ظروف كل حالة بشكل منفصل.

توصيات

تقول باسترناك إن بحثها هذا موجه إلى ثلاث مجموعات؛ صناع القرار في الهيئات الدولية، وصناع السياسة الداخلية الذي يصممون خطط التوزيع داخل الدول، والمواطنون العاديون الذين يحتاجون إلى أن يقرروا ما إذا كانوا سيدعمون هذه الخطط إذا عرض عليهم الخيار لفعل ذلك. أما صناع القرار في الهيئات الدولية فعليهم أن يأخذوا بالحسبان في تعاملهم مع الدول التي ترفض الوفاء بالتزاماتها، العلاقة بين هذه الدول ومواطنيها.

ومن الخطأ الافتراض أن المواطنين بالضرورة مسؤولون عما تفعله دولتهم باسمهم، ولا يعني ذلك أيضا في المحصلة أن تكاليف أخطاء الدول التسلطية يجب أن يستثنى منها شعوبها، لكن صانعي السياسة الدوليين مدينون، بحسب باسترناك، لمواطني هذه الدول بإيلاء الاعتبار الدقيق لكونهم لم يتورطوا في جرائم دولتهم. فضلا عن ذلك على المجتمع الدولي أن يبتكر طرائق أفضل لاستخراج الموارد ومصادرتها ممن يسيطرون على هذه الدول ومن دبروا أخطائها، لأنه في غياب مثل هذه الآليات يصبح من المستحيل تحميل الدول التسلطية المسؤولية من دون إلقاء العبء على شعوبها.


فيما يتعلق بصناع السياسة الداخلية فإن الممارسة السائدة اليوم هي توزيع أثر الأخطاء المرتكبة بشكل تلقائي على عموم السكان. وهي ممارسة إشكالية لأنه من حيث المبدأ يفترض الناس أن يتحمل الفاعلون المشاركون في السلطة المسؤولية واللوم الصريح عن الأخطاء. والحال كذلك تقترح باسترناك أن تبرر الدولة لمواطنيها سبب توزيع العبء على الجميع، وان تجد حججا مقنعة تقدمها لهم، وأن تحاول قبل كل ذلك تطبيق التوزيع القائم على تتبع اللوم.

أما فيما يتعلق بالمواطنين العاديين فتفترض باسترناك أن القسم الأكبر من المواطنين في جميع أنحاء العالم يعتبرون أنفسهم مشاركين في تحمل مسؤولية ما تفعله دولهم، ودليلها في ذلك "شعور الفخر الذي يختبرونه حين تحسن دولتهم التصرف، وعدم الارتياح والارتباك الأخلاقي وشعور العار الذي يعايشونه إذا ارتكبت خطأ ما".  وبالتالي فالعلاقة بين المواطنين وسياسات دولهم، هي علاقة قائمة وموجودة على الرغم من أن معظم المواطنين يؤدون دورا هامشيا في عمليات اتخاذ القرار، حتى داخل النظم الديمقراطية. وتقول أنه ما دمنا نرى أنفسنا جزءا من دولتنا، ونعتزم المساهمة في قدرتها على حكمنا، فنحن إذن أعضاء حقيقيون فيها، ونتحمل تبعات المسعى الجماعي الذي اخترنا في النهاية أن نكون جزءا منه.