ليس من الجديد أن يتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مواقف قوية، ثم يتراجع عنها. حدث هذا إبان انقلاب النيجر، حين أوحت باريس، التي كانت دخلت حالة تأهب، والتي ظلت تتعامل مع مستعمراتها السابقة وكأنها ما تزال تحت الاحتلال، بأنها عازمة على التدخل العسكري. ماكرون مضى لإعلان عدم الاعتراف بالسلطة الجديدة، وبأن السفير في نيامي سيبقى، حتى إن لم ترغب السلطات في ذلك. لم يستمر الأمر طويلا. الأفكار المتهورة الخاصة بالقيام بعملية عسكرية، لم تجد أي دعم من الحلفاء، أما السفير، الذي استند في البداية إلى بقائه في أرض فرنسية، فلم يستطع أن يصمد طويلا وسرعان ما أدرك أن استغناءه عن الخدمات المقدمة من البلد المضيف غير ممكن.
لم يملك الرئيس الفرنسي إلا أن يبتلع تصريحاته الغاضبة، التي اكتست كسوة الإشفاق على الديمقراطية، قبل أن يقبل بانسحاب الدبلوماسيين والجنود الفرنسيين من أراضي النيجر. مثلما تعاملت
فرنسا ماكرون مع النيجر باستعلاء قوة استعمارية، تعاملت أيضا مع الولايات المتحدة بجفاء مطالبة بعلاقات ندية، ومهددة بين الفينة والأخرى بتكوين حلف أوروبي والاستغناء عن الناتو. كان ذلك التوجه يتناسى المكانة الحقيقية لفرنسا كدولة متوسطة القوة، وغارقة في الأزمات، كما كان يتجاهل حقيقة أن الحلفاء الأوروبيين، الذين اعتمدوا لعقود طويلة على مظلة الحماية الأمريكية لدرجة إهمال الإنفاق على العتاد العسكري، كان يصعب عليهم الانتقال مرة واحدة للاعتماد المطلق على أنفسهم.
الحديث عن تجاوز الروس للخطوط الحمر، أو لقواعد الاشتباك يعتبر مثيرا للتساؤل حول المقصود به
الوضع الإقليمي، الذي طغت عليه الأزمة الأوكرانية، أضعف أطروحات ماكرون، ليؤكد من جديد لدول الجوار أن هذه اللحظة ليست مناسبة أبدا لإعلان الانسحاب من المنظومة الأمريكية. اضطر ماكرون مرة أخرى لابتلاع تصريحاته، التي كان قال فيها أن حلف الناتو «ميت سريريا»، فعاد من جديد لتثبيت علاقة بلاده بالولايات المتحدة، بمعنى أنه لم ينجح في الظهور بمظهر المتحدي، الذي كان ظهر به الرئيس الأسبق شارل ديغول. ديغول كان قرر في عام 1966 تجميد مشاركة فرنسا في القيادة العسكرية للحلف، اعتراضا على النفوذ الأمريكي، ما أدى لنقل مقر الحلف من باريس إلى مقره الحالي في بروكسل البلجيكية. مؤخرا، ومع تحقيق القوات الروسية لمزيد من التقدم في نزاعها مع أوكرانيا، امتدت تهديدات ماكرون لموسكو، التي كان ذكّرها في نهاية نيسان/إبريل الماضي بامتلاك صواريخ بعيدة المدى وقادرة على الوصول إليها. تلا ذلك بداية شهر آيار/مايو تصريح هدد فيه بإمكانية إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، إذا ما تجاوزت
روسيا الخطوط الحمر. أدلى ماكرون بذلك في مقابلة حظيت باهتمام واسع مع مجلة «إيكونومست»، متجاوزا بذلك العبارة الفضفاضة، التي كانت مستخدمة، والتي كانت تشير إلى أن كل الخيارات مفتوحة، للحديث عن تدخل عسكري في المعركة. خيار التدخل المباشر كانت تتم الإشارة إليه في الاجتماعات الأوروبية، وكان يجد دعما وحماسا من دول مثل بولندا والتشكيك، التي كانت تؤمن بضرورة تأمين الحدود الشرقية لأوروبا بأي ثمن، وهو ما كانت تعترض عليه في المقابل دولة محورية كألمانيا.
الحديث عن تجاوز الروس للخطوط الحمر، أو لقواعد الاشتباك يعتبر مثيرا للتساؤل حول المقصود به، وما إذا كان الأمر يشير إلى إمكانية التحرك الفرنسي في حالة نجاح الروس في إسقاط مدينة أوكرانية جديدة كخاركيف. يظهر القليل من المحللين الفرنسيين بمظهر الداعم لخيار الحل العسكري. إيزابيل لاسير من صحيفة «لوفيغارو» حاولت في مداخلة تلفزيونية لها أن تفرق بين اعتقادها من جهة أن التصريحات كانت مناسبة من أجل إطلاق رسالة تحذير، وواقعية ذلك التدخل. اعتبرت لاسير أن في هذه التصريحات مؤشرا جيدا على اقتناع الرئيس ماكرون بفشل سياسة التهدئة والاحتواء، التي حاول اتباعها في البداية، وأن المناسب في هذه المرحلة هو إظهار القوة. لاسير، المتخصصة في الشأن الروسي، عبّرت عن قناعتها بأنه إذا لم يتم التعامل بحسم ومنع الروس من التهام أوكرانيا، فإنهم سوف يتمددون لدول أخرى كجورجيا ومولدافيا، ما يعتبر مهددا جادا للأمن الأوروبي.
لأسباب متعلقة بالجيش الفرنسي، الذي لم يخض حربا حقيقية منذ عقود، ولكون الأراضي والطبيعة الأوكرانية جديدة عليه، إضافة إلى اختلاف وجهات النظر الأوروبية حول الموضوع، فإن هذه التصريحات القوية تظل أضعف من أن تنجح في تحقيق هدفها الأصلي، وهو إرسال رسالة ردع لروسيا. الأخيرة اكتفت بالتذكير عبر متحدث باسم الرئاسة، بأن هذا التوجه، المرتبط بشكل شخصي بالرئيس ماكرون، شديد الخطورة. المحلل الفرنسي فنسنت هوغو فسّر تصريحات ماكرون بشكل مختلف، حيث قال بدوره، إن المقصود ليس مشاركة الجيش في الحرب، وإنما إرسال خبراء أو مستشارين، وهو رأي يفرغ كلمات ماكرون من معناها، إذا ما علمنا أن هناك بالفعل خبراء غربيين موجدين في أوكرانيا منذ عام 2014. لباريس أسبابها التي تدفعها للتصعيد مع
موسكو، فبخلاف المسألة الأوكرانية هناك ما ترى أنه استهداف للمصالح الفرنسية في أكثر من مكان، خاصة في افريقيا، حيث تتهم روسيا بالوقوف خلف تمرد دول الساحل على وصايتها. يمكن لتصريحات ماكرون أن تدخل في باب ما يعرف بـ»الغموض الاستراتيجي»، الذي يجعل الطرف المقابل غير متأكد من نوايا غريمه، اليوم تترك التساؤلات حول جدية التدخل وكيفيته وإمكانية أن يشمل استخدام سلاح نووي بلا إجابة. علينا، في الوقت ذاته، ألا ننسى أن هناك غموضا استراتيجيا روسيا مقابلا يتعلق بأهداف الحرب، وما إذا كانت سوف تتوقف إذا ما ضمت روسيا إقليم «دونباس» المتاخم لحدودها بشكل كامل.
يشترط ماكرون أن تطلب أوكرانيا تدخله، وهو بهذا يعيد إلى الأذهان التدخل الفرنسي في دول افريقية مختلفة بحجة المساعدة في استتباب الأمن أو مكافحة الإرهاب. هذه المقاربة النظرية لن يمكنها أن تنسينا الفارق الكبير بين مواجهة جماعات متشددة متناثرة، والدخول في مواجهة مع دولة بحجم روسيا، إضافة إلى هذا، فإنه يجب التذكير بأن التدخل الفرنسي، حتى على مستوى المواجهة مع تلك الجماعات الفوضوية، لم يكن ناجحا، حيث توسع نفوذها ونطاق هجماتها في تلك الفترة، بل كان ذلك الفشل من أهم أسباب تمرد القادة الافارقة على السلطات المحلية وعلى الشراكة الأمنية مع فرنسا. من السهل إقناع الأوروبيين بأنه حان الوقت من أجل الاعتماد على النفس، في ما يتعلق بالأمن القومي، خاصة مع إرهاصات عودة الرئيس دونالد ترامب، المعروف بقناعاته الانسحابية، إلى الحكم. الأصعب هو محاولة إقناعهم بأن أمن دول كفرنسا يحتاج للتدخل في أوكرانيا، ماري لوبان، السياسية، التي تمثل اتجاها يمينيا متعاظما، ظلت تعلن رفضها لأي نوع من التورط في الحرب، معتبرة أن مثل هذه الأفكار تمثل «خطرا وجوديا» على الفرنسيين.
في عام 1812 دخلت فرنسا النابوليونية حربا ضد روسيا بهدف إخضاع قيصرها، على الرغم من تحقيق الفرنسيين لكثير من التقدم ووصولهم إلى موسكو، إلا أن النصر، في محصلة الحرب، لم يكن حليفهم، بل كانت تجربة بخسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. مع وجود فوارق كبيرة في ظروف الحادثتين، إلا أن استدعاء تلك الأحداث التاريخية مهم، والسؤال: هل يمكن لفرنسا ماكرون أن تنجح فيما فشلت في تحقيقه فرنسا نابليون؟.
المصدر: القدس العربي