في تعليقي على التظاهرات التي شهدتها روسيا عقب احتجاز المعارض نافالني، والتي قرأها البعض كموجة ثورية مهددة لحكم الرئيس بوتين، كتبت أن مما يمكن أن يوحي بمآلات الأحداث هناك هو، مدى ثقة الناشطين بالدول الغربية، أو ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» الذي، إن كان يتفق مع هؤلاء الثوار حول هدف الإطاحة بحكم بوتين، إلا أنه بلا شك يملك رؤية ليست بالضرورة متطابقة مع ما تنشده هذه الجماهير الطامحة في بيئة سياسية واجتماعية أكثر عدلاً.
لا يمكن للمرء أن يجد دليلاً على السياسة البراغماتية وغير المبدئية لذلك «المجتمع الدولي» أوضح من تعاطيه مع سلسلة الثورات العربية، فقد ظلت هذه الدول تمثل داعماً رئيساً للأنظمة التسلطية. وقفت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع حسني مبارك حتى تأكدت أن نظامه تهاوى، في حين عرضت فرنسا على بن علي إرسال تعزيزات أمنية من أجل تثبيت حكمه، قبل أن يستسلم ويرى أن لا فائدة من مقاومة الإرادة الشعبية. رغم هذا الواقع الواضح، إلا أن النخب السياسية والثورية ظلت تتعلق بالغرب، كما ظلت تتنافس في ما بينها على كسب وده، ما سمح له بالتدخل والنجاح في تشكيل الواقع الجديد بعد أن كان فشل في التنبؤ بحدوث أي نوع من التغيير في المنطقة التي ظلت مجمدة سياسياً لعقود طويلة.
اليوم، وبعد مرور كل هذه السنوات، ما يزال البعض يشكك في أنها كانت ثورات حقيقية، معتبرين أنها لم تكن سوى مؤامرات كبيرة لإحداث تغييرات مقصودة على مستوى القوى الحاكمة. الرؤية الموضوعية تدفع لتجاوز هذا السؤال ولاعتبار أن النتيجة واحدة في الحالتين، فالأمور بخواتيمها، وليست بالبدايات الثورية الرومانسية التي انطلقت، في غالبها، بطريقة عفوية مستصحبة تضحيات أليمة. الخواتيم تحدّث عن الاختطاف والتآمر والإحباط الذي أصبح سمة غالبة لمن كانوا يحلمون بتحسن أحوالهم، في حين ذهبت الأمور لأسوأ من ذلك في أكثر من بلد بعد شيوع الفوضى واحتدام الحروب، حتى أجبر الناس على الحنين لعهد ديكتاتورهم القديم.
الحقيقة هي أن دوافع الدول الغربية لدعم حركات الاحتجاج والتغيير كانت تختلف اختلافاً جذرياً عن دوافع الثائرين، كانت المصلحة هي التي تجعلهم يتحالفون مع ديكتاتوريات المنطقة التي تقدم لهم الكثير مما لن يتوفر لهم بسهولة في عهد ديمقراطية ممثلة لصوت الشعب، كما أن المصلحة هي التي كانت تقف وراء تخليهم عن هذا الزعيم أو ذاك، والبحث عمن يمكنه أن يخدم طموحاتهم بشكل أكبر، أما الولايات المتحدة فمضت لما هو أبعد من ذلك لتكون الراعي الأممي لعشرات الانقلابات، التي شاركت في بعضها بشكل سافر، ليس لإزاحة المستبدين وإنما لإزاحة من رأت أنهم يعرقلون مساراتها. في عوالم الجنوب، خاصة المنطقة العربية، لا يمكن أن تكون الديمقراطية هي الهدف الحقيقي وراء التحركات الأوروبية والغربية، فالأنظمة الديمقراطية ستأتي في الغالب بأشخاص غير مرغوب فيهم من الرافضين للهيمنة الاقتصادية والسياسية الغربية، أو الداعمين للحقوق العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، كما أنها ستأتي لا محالة بالإسلاميين الذين لا ترى تلك «الديمقراطيات» أن مصلحتها يمكن أن تكون معهم.
كل ما سبق ليس مجرد وجهة نظر، بل حقائق يؤكدها الواقع، فالغرب الذي يعلن في كل محفل أن تعامله مع الدول الأخرى سوف يكون بناء على مدى احترامها لحقوق الإنسان والمواطنة، يعد الشريك الأهم لأكبر الأنظمة القمعية في داخل المنطقة وخارجها. قبيل مغادرته الخرطوم نشر عرفان صديق السفير البريطاني، رسالة وداع أرادها أن تكون لطيفة وصريحة. كانت الرسالة التي تم نشرها على موقع السفارة، وعلى كثير من المواقع الإخبارية المحلية أكثر من مجرد كلمة طيبة لسفير في نهاية فترة خدمته، حيث حاول عرفان أن يرد بها على الناشطين والمحتجين الذين كانوا يتهمونه بالتدخل في الشأن الداخلي، فقبل أيام فقط من نشر هذه الرسالة كان عدد كبير من الشباب السوداني يتجمعون خارج أبواب مسكنه، منددين به ومطالبين بمغادرته. كانت رسالة الوداع بالنسبة لعرفان، الذي أنهيت مدة ابتعاثه قبل وقتها المفترض، فرصة من أجل مخاطبة هؤلاء المعترضين، والتذكير بالأدوار التي لعبتها بلاده، والتي لعبها هو بشكل شخصي في سبيل إنجاح التغيير والعبور نحو حكومة انتقالية، وبدا وكأنه أراد أن يقول إنه، وإن كان غير سوداني، إلا أنه لا يقبل المزايدة فلولاه لما تمت هندسة التنحي والتغيير.
في حقيقة الأمر فإن دور عرفان كان أوضح من أن ينكر منذ مرحلة الاعتصام الذي شارك فيه مثمناً دور المعتصمين، مروراً بلحظة الابتهاج بسقوط البشير والضغط في سبيل تكوين حكومة مدنية، ونهاية بمفاوضات الوثيقة الدستورية والتشاور حول إنشاء البعثة الأممية الجديدة، وغيرها من المراحل التي مرّ بها النظام الجديد.
لم يكن عرفان يشعر بأن عليه أن يعمل بشكل مستتر، فكان دائم الحضور من الناحية الاجتماعية والسياسية، كما كان لا يكتفي بالتعبير عن رأيه بين جنبات الغرف المغلقة التي كان يجتمع فيها مع الفاعلين السياسيين، وإنما على الملأ في تغريدات صريحة تتحدث عن مواضيع من قبيل، تقييم أداء الحكومة وأحياناً، ما يشبه توبيخها، كما حدث حين عبّر عن استيائه من تسريب خطاب استقدام البعثة الأممية، أو حين تحدث عن أهمية رفع الدعم عن السلع، أو إبعاد الإسلاميين، أو ضرورة التوصل إلى اتفاق سلام مع حركات عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو وغيرها من الإشارات.
أحد الأسباب التي كانت تجعل تدخلات عرفان سافرة هي، إحساسه بقبول القيادة الجديدة بهذا التدخل. كانت النخبة الحاكمة تقرأ هذا «الاهتمام» كدليل على العلاقة الحميمة، وعلى الانفتاح على المجتمع الدولي، كما كانت ترى فيه تعبيراً عن القطيعة مع النهج السابق المتشكك في نوايا الغربيين، الذي كان يتعامل مع ممثلي الولايات المتحدة والدول الأوروبية بحذر مفرط، جعلت البشير يتباهي في أحد لقاءاته الجماهيرية بأنه أسمع السفيرة البريطانية السابقة ما لا يرضيها، حين حاولت تقديم النصح حول طريقة إدارة البلاد. المعترضون على تمدد هذا السفير أطلقوا عليه عدة صفات أشهرها صفة «الحاكم العام» المتهكمة، لكن للأمانة فالرجل لم يكن الشخصية الأجنبية الوحيدة، التي لعبت دوراً في التطورات السياسية اللاحقة لسقوط البشير. كان الفارق بينه وبين غيره فقط هو أنه لم يكن يرى في تدخله هذا ما يشين. الغربيون كانوا يرغبون في إسقاط نظام البشير، هذا أكيد، لكن ذلك لم يكن بدافع حب أهل السودان، بقدر ما كان بدافع حماية مصالحهم. هذا يفسر الحماس تجاه القيادة المدنية الحالية، وهو حماس لن يستمر طويلاً إذا ما أبدت هذه القيادة بعض الاستقلال، أو وقفت في طريق مصلحة داعميها، ففي هذه الحالة ربما يتبدل الأمر، ليراهن أولئك الداعمون على العسكر، أو على أي طرف ثالث يظهر رضوخاً أكبر، وإن كان النظام القديم نفسه.
هذه الجملة الأخيرة ليست على سبيل المبالغة، فقد سبق أن دعمت هذه «الديمقراطيات» البشير في انتخابات 2010 ونفت عنه شبهة التزوير، حينما اقتضت المصلحة، التي تعلقت حينها بفصل الجنوب، ذلك. هذه هي الحقائق التي يجب أن نذكّر بها أنفسنا قبل أن نستسلم للوعود البيضاء.
(القدس العربي اللندنية)