على مدى عقود ونحن نرى ونراقب نزيف علماء الأمة ومفكريها
ومشايخها ونخبها متواصلا مستمرا، يرحلون بصمت خارج أسوار بلادهم، بعد أن اضطهدهم الظَلَمة
والطغاة والمستبدون، كما اضطهد أهلهم وشعوبهم، فقضى عليهم شراذمُ الأرض أن يموتوا غرباء
عن الوطن، وغرباء عن الأهل، فلم ينتفع منهم بلدهم ولا أهلهم.
حدث هذا بالأمس القريب مع الأستاذ الكبير وأستاذ الجيل
عصام العطار، حيث قضى نحبه في آخن بألمانيا بعيدا عن دمشق التي أحبته وأحبها، وذلك
منذ حرمانه من دخولها عام 1964 وحتى اليوم، بل ولاحقوه طلبا في اغتياله عام 1981، فلم
يعثر الجبناء يومها عليه في بيته، فقتلوا زوجته بنان الطنطاوي، حتى لا يرجعوا خاليي
الوفاض، وِفاض إرهابهم وظلمهم وقتلهم الذي تربوا عليها، ثم ربّوا عليه أبناءهم وأحفادهم.
حدث هذا بالأمس القريب مع الأستاذ الكبير وأستاذ الجيل عصام العطار، حيث قضى نحبه في آخن بألمانيا بعيدا عن دمشق التي أحبته وأحبها، وذلك منذ حرمانه من دخولها عام 1964 وحتى اليوم، بل ولاحقوه طلبا في اغتياله عام 1981، فلم يعثر الجبناء يومها عليه في بيته، فقتلوا زوجته
رحل قبله الشيخ العلامة عبد المجيد الزنداني رحمه الله
تعالى في إسطنبول، بعيدا عن وطنه، بعد أن عاثت مليشيات الحوثي قتلا وفسادا وإجراما
في بلده اليمن، وفي الحصن الحضاري الثقافي الذي أقامه وهو جامعة الإيمان، حيث كانت
مهوى اليمنيين، والعرب وحتى المسلمين، فنشر بذلك عطره على
العالمين العربي والإسلامي.
ومن قبل رحل الإمام يوسف القرضاوي في قطر بعيدا عن مصر،
بعد أن زاد منسوب الأمل باستعادة مصر رجالَها ونخبها المبعدين، يوم وصل الرئيس مرسي
إلى السلطة، لكن عاجله وعاجل مصر الانقلابيون فأطاحوا بكل المكتسبات التي تحققت خلال
الثورة، لتعود الأمور إلى المربع الأول، مربع الظلم والطغيان والاستبداد، ومربع طرد
النخب وإبعادها عن مصر وشعب مصر، وهو الأمر الذي لم تكن مصر فيه نشازا؛ إنه قدر العالم
العربي تحديدا في العقود الأخيرة على أيدي
الاستبداد والمستبدين، بإبعاد النخب وحرمان
الأمة وشعوبها من هذه النخب.
نستذكر خلال العقود الماضية رحيل معظم نخب الأمة خارج أسوارها،
فعلى مستوى الشام لم يقتصر الرحيل على الطيف الإسلامي فحسب، وإنما تعدّاه إلى غيره،
فقد رحل رؤساء وسياسيون ومفكرون سوريون؛ من أمثال ناظم القدسي، ومعروف الدواليبي، وأكرم
الحوراني، وميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، ومن الإسلاميين رحل العلامة المحدث الشيخ
ناصر الدين الألباني، والمفسر محمد علي الصابوني، وسعيد حوى، وحسن هويدي، وعبد الفتاح
أبو غدة، وعدنان سعد الدين، ومحمد أديب الجاجي، ومحمد أديب الصالح، ومحمد الصباغ، والمئات
وربما الآلاف منهم خارج سوريا.
اليوم ومع نزيف النخب المتواصل حتى موتهم خارج أرضهم وبلادهم،
بعد أن كان النزيف هجرة قسرية خارج البلد، لا بد من وقفة حقيقية من أجل التفكر في عواقب
هذا النزيف، لا سيما وأن هذا النزيف يتواصل حتى بعد الممات، بحيث تُحرم الأجيال من
وجود قبورهم بينها، حتى لا تصبح هذه القبور على الأقل ملهمة للأجيال من بعد. فالتاريخ
عبارة عن شخصيات ملهمة وفاعلة، وهي فقرات ضمن سلسلة تضم عمودا فقريا يضرب في جذور الأمة
وفي حاضرها نحو مستقبل أفضل، ومع تغييب فقرات لن يكون هناك عمود فقري، ولا تاريخ ولا
حاضر ولا مستقبل، وهو ما يحتم على الأجيال الراهنة والمستقبلة أن توقف نزيف الهجرة
أولا، وأن تعمل على مشروع حقيقي يضمن مصالح العباد والبلاد، إذ لا يمكن أن تكون العصابات
المتحكمة بالعالم العربي والإسلامي هي نفسها التي تفرض رؤيتها وسطوتها على الشعوب،
وتقضي على النخب وغيرها بالهجرة والطرد عن أوطانها وشعوبها.
كان الربيع العربي وثوراته فرصة ذهبية للشعوب والنخب، ولكن لم تُحسَن إدارته، تماما كما لم يحسَن استخدامه كرافعة للنهوض العربي والإسلامي، وما على النخب اليوم وبعد هذه التجارب المريرة والدموية، إلّا دراسة الواقع ببصيرة والاطلاع على الأخطاء الحقيقية، أملا في رسم صورة وخارطة طريق تليق بالشعوب وبهذه الأوطان
أول خطوات هذا المشروع هو الإصرار على البقاء في الأوطان،
مع تكاتف النخب كلها على مشروع حقيقي، تتناسى فيه الخلافات وتتناسى فيه الإحن والبغضاء
والشحناء ومصالح النفس والذات؛ انطلاقا إلى ذلك المشروع الأرحب. إذ لطالما لعبت حظوظ
النفس دورا كبيرا في التفرقة والخلاف، ليقفز بذلك إلى الساحة من تربّص بها طويلا، فكانت
عاقبة الأمر تمكن الأشرار من حكم البلاد على حساب خلافات ونزاعات أهل الحق فيما بينهم،
وعدم تطاوعهم لبعضهم بعضا، بحيث يظن كل واحد منه أنه صاحبه، رافضا أن يخفض جناحه لأخيه،
فيدفع الكل الضريبة، ومعه تدفع الضريبة الشعوب المقهورة. أما النخب فربما يكون حظها
أفضل من حظ الشعوب المضطهدة، لقدرتها على الخروج من البلاد، أما الشعوب فمكتوب عليها
أن تبقى في بلاد القهر والاستبداد، مجبرة ومكرهة، على أن يحكمها من ليس بأهل للحكم
والإدارة، ولكن ماذا عليها أن تفعل مع غياب نخب تدفع بها إلى انتزاع حقوقها، وترسيخ
كرامتها؟
كان الربيع العربي وثوراته فرصة ذهبية للشعوب والنخب، ولكن
لم تُحسَن إدارته، تماما كما لم يحسَن استخدامه كرافعة للنهوض العربي والإسلامي، وما
على النخب اليوم وبعد هذه التجارب المريرة والدموية، إلّا دراسة الواقع ببصيرة والاطلاع
على الأخطاء الحقيقية، أملا في رسم صورة وخارطة طريق تليق بالشعوب وبهذه الأوطان التي
كانت أماكن تاريخية ملهمة في الماضي.