ما بين اللقب والأداء:
الحقيقة
أن تبني التعريف للسياسة بأنها فن الممكن والقدرة وما إلى ذلك، لم يرتق بها وإنما
تخلف بها كعامل مدني أصابه العطب في أنحاء العالم. والأمر ليس حديثا، فعندما أراد الرئيس
الفرنسي رينه كوتي (1954-1959) تعريف رجل الدولة والسياسي قال: "رجل الدولة
يعمل من أجل بلاده، والرجل السياسي يريد من بلاده أن تعمل من أجله". إذن معنى
السياسة المنقول لنا وفق تقليدنا للغرب هو هذا، فالسياسي الذي نعنيه هو من يملك
المقاربات وإدارة المصالح والمرور من طرق ضيقة لينتهي
إلى حيث يريد، وهي مبلطة لانتقاله من جديد، وعندما يكون من حملة القيم وهموم الناس
والسعي الجاد من أجلها فهو يضع خطواته ليكون رجل دولة، فرجل الدولة فوق الأحزاب وإن
كان حزبه وفوق المساومات وإن كانت ربحه لمنصب أو مال، هكذا ألمح الرئيس فنسنت
أوريول رغم أنه كان رئيسا لحكومة مؤقتة.
الفرق بين السياسي ورجل الدولة:
في
تعريفنا للسياسة كإدارة مصالح الأمة فالسياسي يعد من رجال الدولة، لكن رجل الدولة
ليس بالضرورة أن يكون في
السلطة أو يعمل في الدولة، بل هو كل من يساهم في نهضة
بلده بأفكار أو أعمال أو رفع هموم الناس والسعي لتخفيفها أو مساعدة النخبة في
الدولة لفعل ذلك.
فرجل
الدولة يفكر في الأجيال، وإن كان سياسيا فهو لا يساوم بمصالح الناس من أجل الفوز
بمكان في السلطة، وغالبا العامل في السياسة مراوغ وليس شفافا، فيما رجل الدولة
شفاف واضح. ويمكن أن نرى هذا في تاريخ الساسة في العراق مثلا؛ نوري السعيد كسياسي
ورجل دولة، وفي العهد الجمهوري عبد الرحمن البزاز.
المساومات،
الصفقات، التسويات.. هذه لا يعتبرها العامل في السياسة أمرا يخجل منه، أو يرى
الفساد إن مارسه، لكنه يرى الفساد في الآخرين وبالذات من يظن أنه غلبه على ما يراه
غنيمته، ولهذا هو ينسى ولا يتذكر كذبا أو حقائق قالها أو فعلها لأنه يريد عبور
اللحظة. وهذا ليس عند رجل الدولة الذي يضع من قيمه حدودا لما يكسبه كشخص حتى لو مُنح
له قانونا، فهو سيستعين به لرعاية هدفه في تحسين وضع المواطن، لأن الجمهور ووضعه
استراتيجية عنده وليس تكتيكا أو وسيلة صوت ليصل الكرسي.
العامل
في السياسة لا يهمه ما يحصل من استثارة السلبية في مشاعر المواطن، وهذا ليس ديدن
رجل الدولة الذي يهمه أن يجمع الأمة بالمقاربات ويوجه وسائله للتقارب والتعايش
وتخفيف الألم والتصدعات إن وجدت.
كم من
فاشل تمكن من السلطة بلا كفاءة وفاعلية سلبية وسفيها، لأن أحد العاملين في السياسة
احتاج رفعه لكيلا يرتفع إنسان كفؤ نظيف متمكن، ظنا أنه يمكنه السيطرة عليه وتوجيهه
لمصلحته، لكن نسي أن هؤلاء الناس يرتقون السلالم ويدفعونها.
رجل
الدولة يبحث عن مشاريع دائمة واستراتيجية تتوسع وتعطي عملا للكثرة ويجمع حوله
الخبراء ورجال الفكر والدولة، أما العامل في السياسة، فهو يرى المشاريع صفقة، ولا
برنامج مستقبليا إلا لشخصه ومن يحيطون به، وهم مجموعة من الطبول الفارغة التي تمجد
من في السلطة.
رجل
الدولة ينظر إلى المنصب كمهمة لهذا عندما لا تسير الأمور كما يشتهي يغادر ويعلن
فشل المهمة ويغادر، فالكرسي عنده آلية وأداة فقط، أما من يحب السلطة فلا يشعر
بالفشل وإنما يعكسه على آخرين بأنهم لم يسمحوا له بأن يقوم بعمله كما ينبغي.
حب
الظهور وكلام كثير بلا استراتيجية أو هدف، رسائل مداهنة لهذا وذاك وذم هذا وذاك
وتنازلات وتراجع عند اللزوم، المهم أن يتمسك بما وجده من حلاوة الكرسي وميزاتها،
أما رجل الدولة فهو رجل أفعال، والتضحية من أجل القيم والاستقرار بل من أجل الناس
هي ميزة رجل الدولة في السلطة وخارجها أيضا.
هل كل عامل بالسياسة رجل دولة؟
طالما
يُكال المديح بنزع لقب رجل الدولة في الإعلام من مختلف الطبقات؛ ممن يعرف أو لا
يعرف معنى قوله تقييما وتصنيفا لهذا أو ذاك من القادة أو السياسيين أو مسؤولي الدولة،
وكأن المصنف هذا يجد نفسه مؤهلا لإصدار تلك الأحكام ومن الواضح أنه لا يعرف معناها
وأنه محض مداهن يتقبله محبو السلطة، وهذا من عيوب الميديا التي تظهر أجرأ الناس
على الكلام نتيجة جهلهم وتغفل نخب المثقفين فعلا لأنهم لا يعتمدون الإثارة،
فالمتكلم والمتلقي صفتهم السطحية.
رجل
الدولة إن تولى حل الأزمة ورفع النقمة ورفّه شعبه وجانسه ووحّده على قيمة، استصغر
عظائم أعماله ودعا النخبة للتخطيط وليس للتمجيد ووزع المهام والمقترحات لدراستها.
فترك الاجتهاد بلا تخطيط ضياع للجهد، والأمر ليس بأن تقترح أفكارا إيجابية بل أن
يكون هنالك مسار لتنفيذها، وإلا ضاع جهد منظمات المجتمع والحكومة وجهد الصالحين ورأي
رجال الدولة من غير الحاكمين بمجاملة الأمنيات ومخاطبة الضعف والحاجة بلا حلول، أو
امتداح الفشل المتعاظم انفجاريا على أنه نجاح، فكم رأينا الأمة -نتيجة التضليل- تتمسك بفاشلين عبر التاريخ المنظور حولوا الذهب رمادا، لهذا تأخرنا عن الأمم حين
قتلنا أملنا بتغييب الصالحين وتسفيه العلماء والنخب والمثقفين، بل هنالك من يجند
المادحين ويكرمهم فيزداد رصيد النفاق، ويبقى الناس في سبات العجز يرون ولكن لا يقوون
على الفعل فيميلون للنوم والحلم بما لم يحققوه.
مهمة الإنسان
البناء وليس المناكفة، ومهمة رعاية المصالح إعلاء النخب العاملة والفاعلة في
النهضة والبناء وليس تعظيم الغوغاء والرياء أو الجدل العقيم والتخلف.