يترقب العالم باهتمام شديد ردا إيرانيا على
الغارة الجوية الإرهابية
الإسرائيلية التي استهدفت، في فاتح أبريل، مبنى ملحقا
بقنصليتها بجوار سفارتها في دمشق، وأسفرت عن قتل ستة عشر (16) شخصا، من بينهم
العميد محمد رضا زاهد القائد في فيلق القدس وضباط آخرين في الحرس الثوري.
اعتادت
إيران في مثل هذه الحالات المسارعة
بإعلان أن الحادث لن يمر بدون رد وأنها تحتفظ لنفسها بتوقيت الرد ومكانه وشكله،
وترفق ذلك في العادة، عبر "محللين" مقربين منها، بأنها لن تنجر إلى ساحة
مواجهة ليست من اختيارها وبأنها تتمسك بسياسة الصبر الاستراتيجي.
تكررت الاعتداءات الإسرائيلية على إيران
خارج أراضيها، كما تكررت الاعتداءات على "المحسوبين" على محورها مع
تزامن التصريحات عن "وحدة الساحات" ومع الحرب على غزة وما تعانيه من
هجوم إسرائيلي همجي بدعم أمريكي وغربي غير مسبوق تماهى فيه الغرب مع الكيان
الصهيوني وعطل كل الآليات الأممية وأفرغها من جدوى وجودها، والأهم أن كل ما سبق
أفرز دينامية عالمية مناصرة للمقاومة في فلسطين بما جعل القضية الفلسطينية تحتل
واجهة الحدث وصدارة النشرات وقصاصات الوكالات، وكل ذلك رفع من انتظارات الشعوب،
وخاصة العربية والإسلامية، من إيران.
المثير في الحادث الأخير لاستهداف القنصلية
في دمشق أن حجم التصريحات الإيرانية كان كثيرا ومن مؤسسات وشخصيات من العيار
الثقيل، وعلى رأسهم القائد علي خامنئي، وبلغات مختلفة، وضمنها العبرية، حيث دون
خامنئي على حسابه على موقع إكس بالعبرية مباشرة بعد الحادث "بعون الله، سنجعل
الصهاينة يأسفون على جريمتهم العدوانية ضد القنصلية الإيرانية في دمشق"، وهو
ما أعطى لترقب الرد الإيراني مصداقية لأن المكانة الدينية والاعتبارية لخامنئي
تعطي لكلامه جدية تبعده عن التهديد بدون فعل.
دوافع المترقبين للرد الإيراني متعددة ولا
يمكن وضعهم في كفة واحدة، فهناك الطرف الصهيوني المنقسم على ذاته بين نتنياهو
وأنصاره الذين يرغبون في التسريع بهذا الرد لأنه حبل إنقاذ له يجنبه المحاكمة لتي
تنتظره ويعطل الانتخابات السابقة لأوانها التي صار المطالبون بها كثر ويطيل عمره
السياسي بعد فشله في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب على غزة وتخوفه من دفع فاتورة
الحساب أمام الإسرائيليين بعد أن تضع الحرب أوزارها ولا بد من ذلك بحكم أن الضربات
الإسرائيلية لغزة صارت عشوائية ومكلفة للصهاينة وداعميهم على حد سواء، وبين تيارات
أخرى في الداخل الإسرائيلي تتخوف من تبعات أي مواجهة مباشرة مع إيران يترتب عنها
توسيع جبهة الحرب ودائرة التهديدات لأمنهم. هناك الإدارة الأمريكية التي تنتظرها
استحقاقات انتخابية صعبة بعد خمسة أشهر، بالضبط في 5 نوفمبر، وهي كذلك تتخوف من
توسيع رقعة الحرب والمستهدفين بها لأنها ترى نفسها معنية بها مباشرة ومستهدفة بها
في مجال حيوي تحسبه دائما جزءا من أمنها القومي، ولذلك فهي تتعامل مع هذه
التهديدات بجدية جعلتها تعزز قواتها في المنطقة وتكثف تصريحاتها بشأن أمن
"إسرائيل" الذي تعتبره جزءا من أمنها؛ وهناك إعلام موالي لدول عربية ترى
في إيران عدوا أبديا وترى الفرصة مناسبة لإضعافه ولذلك فهي تتعجل الرد الإيراني
لأنها ترى فيه الشرارة الأولى لحرب موسعة ودائمة على إيران ستزيد من إضعافها
إقليميا وقد تفتتها من الداخل. لذلك ليس مستغربا هذا الاهتمام المبالغ فيه لهذا
الإعلام الذي ينشط في تحليل هذا الموضوع الذي جعله أول أولوياته وأفرز له منذ
اندلاعه مساحات واسعة من زمن البث، وهناك طبعا فئات واسعة من المواطنين العرب
والمسلمين تنتظر بعواطفها ردا إيرانيا يكون بمثابة إعلان حرب على الكيان الصهيوني
ينفس من مأساة الشعب الفلسطيني ويسند المقاومة.
هل يمكن لكل هذه الدوافع أن تؤثر في القرار
الإيراني؟ وهل يمكن لهذا الضغط أن يسرع ردها؟ وهل هناك سوابق في هذا الباب؟
كل السوابق تؤكد أن قوة إيران تكمن في تجنب المواجهة المباشرة وإتقانها لتوظيف حلفائها في المنطقة لتخفيف الضغط عنها وإشغال أعدائها. كل السوابق تؤكد كذلك أن إيران تتجنب الأراضي الإيرانية كساحة مواجهة. فهل ستكون الآن في حالة استثناء؟ أم ستدشن قواعد اشتباك جديدة تلغي ما كان متوافقا عليه مع أعدائها، ولو بشكل ضمني؟
لا يشكك في مساندة إيران لقوى المقاومة في
فلسطين وغيرها إلا من لا دراية له بالواقع لأن الأيدي البيضاء للثورة الإيرانية
ودولتها على فلسطين لا يمكن إنكارها، وشهادة كل فصائل المقاومة، باختلاف توجهاتها،
تؤكد ذلك، ولكن إيران تدعم المقاومة بالشكل الذي تراه هي وبالحجم الذي تقدره هي
وبما يخدم مصالحها، أو لنقل إن أردنا التدقيق أكثر بما لا يلحق بها ضررا مباشرا
أكبر من المكاسب التي يمكن أن تجنيها من دعمها للمقاومة. الدعم الإيراني للمقاومة
مشروط دائما باعتبارات سياسية وعسكرية وزمنية ومكانية، ولا يخفى على متابع الطريقة
التمييزية التي انتهجتها في التعامل مع حماس بعد موقفها من الثورة السورية عام
2011 حيث قطعت الدعم عن الجناح السياسي وأبقته للجناح العسكري.
لا يمكن لوم إيران بهذا الخصوص لأن لكل طرف
حساباته، بل يحسب لها أنها، طيلة الأربعة عقود السابقة، كانت صاحبة حسابات دقيقة
وتوقعات غير خاطئة ومقاربات ضمنت لها الاستمرار رغم كثرة الأعداء ووحشية وسائل
المواجهة والاستهداف المتنوع وغير المتوقف لها في الداخل والخارج. وطبعا لا يمكن
التغاضي أنه في بعض الأحيان كانت رهانات إيران السياسية متعارضة مع مبادئها
الاخلاقية وشعاراتها الثورية كما كان الشأن في سوريا التي تدخلت في شؤونها
الداخلية وعارضت خيارا شعبيا بدعاوي لا يمكن تقبلها.
كل السوابق تؤكد أن قوة إيران تكمن في تجنب
المواجهة المباشرة وإتقانها لتوظيف حلفائها في المنطقة لتخفيف الضغط عنها وإشغال
أعدائها. كل السوابق تؤكد كذلك أن إيران تتجنب الأراضي الإيرانية كساحة مواجهة.
فهل ستكون الآن في حالة استثناء؟ أم ستدشن قواعد اشتباك جديدة تلغي ما كان متوافقا
عليه مع أعدائها، ولو بشكل ضمني؟
نتذكر جميعا شهر يناير من سنة 2020 حين
استهدف قاسم سليماني في غارة أمريكية قرب مطار بغداد أدت إلى مقتله بأمر من الرئيس
الأمريكي ترامب، ونتذكر بالتزامن مع ذلك التهديدات الإيرانية بالرد. لم يتأخر الرد
الإيراني حينها، كان الوقت الفاصل ستة أيام، حيث تم استهداف قاعدتين عراقيتين بهما
قوات أمريكية، ولكنه لم يسفر عن أي خسائر بشرية، وهو ما أثار حينها أكثر من علامة
استفهام حول جدية الرد ومدى تناسب رد الفعل مع الفعل الذي كان ذا ثمن باهظ لأنه
كان روح سليماني قائد لواء القدس، وحول قدرات إيران ومدى توفرها على المعلومات والقوة
اللازمة لتوجيه ضربات موجعة للقوات الأمريكية كما وعدت وكما تستحق.
كان لزاما انتظار أزيد من أربع سنوات ليصرح
الرئيس السابق ترامب على قناة فوكس نيوز تصريحه الشهير، في سياق نقدي لإدارة بايدن
التي لم تعد تحظى بالاحترام اللازم لأمريكا كما كانت في عهده، بأن الإيرانيين
اتصلوا به لإخباره بأن الأمريكيين لن يتعرضوا للاستهداف وأنهم سيخطئون أهدافهم
عمدا. وهذا نص تصريحه "لقد كانت إيران تحت السيطرة. هل تعلم أننا ضربناهم
بشدة بسبب شيء فعلوه، وكان عليهم الرد، ويشعرون أن عليهم القيام بذلك وأنا أتفهم
ذلك. هل تعلم، لقد اتصلوا بي ليخبروني سنضرب موقعا معينا لكننا لن نصيبه، سيكون
خارج المحيط... لقد أبلغونا بذلك، وكنا نعلم أنهم لن يضربونا. والآن كشفت ذلك. لقد
وجهوا تلك الصواريخ وقالوا من فضلكم لا تهاجمونا، لن نضربكم. كان هذا احتراما، كان
لدينا الاحترام". هل كان ترامب صادقا؟ هل كان مدلسا؟
قد يكون ترامب مبالغا أو حتى كاذبا، وهذا ما
عبر عنه الرد الإيراني على لسان علي شمخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني
السابق، في تغريدة على حسابه في منصة إكس "اتصال إيران مع أمريكا قبل الهجوم
الصاروخي على عين الأسد محض كذب، ولكن الجهة التي ردت على ترامب ومفردات الرد
والأثر المحدود للعملية الإيرانية حينها وعدم تكرارها دليل على أن لا دخان بدون
نار، وأن إيران تتفادى المواجهة المباشرة وتتجنب التصعيد، وإن كانت ملزمة بالرد
فهي تختار ردا في الحد الأدنى الذي يحفظ لها ماء الوجه أمام الأنصار بينما ترد
بشكل أقوى بطريقة غير مباشرة عن طريق قوى أخرى.
طبيعة عملية دمشق وتوقيتها وصدورها عن
الكيان الصهيوني في ذروة الحرب على غزة ضاعفت الحرج على إيران التي لم تتفاعل
بالشكل المطلوب مع ما تستوجبه هذه اللحظة وهي من أبدعت وحدة الساحات، وهي اليوم في
موقع حرج جدا يفرض عليها الرد حفاظا على ماء الوجه، ولكن مع استحضار كلفة الرد
وتبعات المواجهة المباشرة والتحذيرات الغربية وتوقع العقوبات الاقتصادية الإضافية
واستحضار انعكاسات ذلك على الداخل الإيراني الذي لا شك بأنه ليس كله مع هذه
الخيارات وغير مستعد لتحمل كلفتها ولم تعد شعارات الثورة وتحصين أفكار الثورة
كافية مع وجود أجيال من الشباب لم تعش أحداثها.
إيران اليوم بين حسابات السياسة التي تفرض
عليها الأخذ بعين الاعتبار كل الإكراهات التي تضطرها لتجنب الرد أو جعله في الحد
الأدنى الرمزي وبين حسابات الأخلاق التي تجبرها أمام جمهور واسع مساند للمقاومة
ينتظر منها ردا في مستوى ما تتطلبه اللحظة ووحشية الكيان الصهيوني والصمود
الأسطوري للمقاومة في غزة. والأهم أن عنصر المباغتة، وهو الأهم في الرد كله، صار
مفقودا بحكم حالة الترقب واليقظة التي يعرفها من يستشعر أنه معني بالرد.
فهل ستغلب إيران حسابات السياسة أم الأخلاق؟
وهل سيتفهم الجمهور الاعتبارات السياسية لحدود الرد الإيراني أم سيغلب العاطفة؟
وهل سيتفهم الغرب والكيان الصهيوني ردا محدودا ويتجاوز الأمر كما كان في استهداف
قاعدة عين الأسد وقاعدة أربيل في العراق؟
في كل الأحوال تبقى هذه هي العوامل التي
ستتحكم في توقيت الرد ومكانه وحجمه وحدوده والمستهدف منه.. الأهم أن الخاسر الأكبر في
كل هذه الأحداث هو الدول العربية التي استثمرت في القرب من الصهاينة ظنا منها أنها
قوة حامية لهم من "الخطر" الإيراني فإذا بهم يكتشفون أنها ورطة وأن
إيران أقوى مما كانت عليه وأن أمريكا لن تضحي بحرب مباشرة معها لحسابهم، بل قد تفضل
تقاربا معها على حسابهم كما كان في عهد الديمقراطي أوباما أستاذ بايدن.