إذا كان الشعب التركى قد عاقب حزب الحرية والعدالة بحرمانه من تصدر
الإنتخابات البلدية الأخيرة، بسبب حالة الغلاء خلال السنوات الثلاث الأخيرة،
وتراجع سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكى حتى تخطى الدولار الثلاثين
ليرة، وارتفاع أسعار الفائدة بما يعوق الإنتاج، وشكوى المتقاعدين من عدم ملاءمة ما
يحصلون عليه مع تكاليف المعيشة، إلى جانب الموقف الرسمي التركي من عمليات الإبادة الجماعية في غزة،
والمكتفي بالإدانة دون إجراءات عملية لوقف العدوان الإسرائيلي، فإن الشعوب
العربية
التي علقت آمالا كبيرة على الحزب والرئيس التركي طوال العقدين الماضيين، قد بدأت
بالفعل فى مراجعة موقفها من الرئيس التركي، والذي تمثل في عدم الاهتمام الشعبي
العربي بالإنتخابات البلدية التركية
الأخيرة، مقابل اهتمامها الكبير بالإنتخابات الرئاسية التركية بالعام الماضي .
بل إن تصريحات الرئيس التركي لم تعد تجد اهتماما من قبل الكثيرين،
بعد أن أصابهم الإحباط من عدم ترجمة تصريحاته إلى مواقف عملية، على الأقل مثلما
فعلت جنوب إفريقيا أو أيرلندا وبعض دول أمريكا اللاتينية، رغم المكانة الإقليمية
والدولية لتركيا وما لديها من قدرات اقتصادية وعسكرية .
موقف براغماتي يحكم التصرفات التركية
ومثلما تتسم تصرفات الرئيس التركي بالبراغماتية والسعي لتحقيق مصالحه،
فإن الشعوب العربية أيضا ستتسم تصرفاتها بالبراغماتية، بعد أن تسامحت كثيرا مع
المواقف المتقلبة للرئيس التركي، ومن ذلك تصريحه بعد إحراق المصحف الشريف بالسويد،
بأنه على السويد ألا تتوقع دعما
تركيا لدخولها إلى حزب الناتو، ثم موافقة تركيا
على انضمامها إلى الحلف، وقبل ذلك مساندته لمسلمي الإيغور ثم تراجع تلك المساندة
بعد زيارته للصين تموز / يوليو 2019 .
وتأكيداته عن محاكمة قتلة الصحفي جمال خاشقجي ثم تسليمه الملف
للسعودية، وتأكيداته بعدم الإفراج الأمريكى أنروبرونسون لاتهامه بالتعاون مع فتح
الله غولن وحزب العمال الكردستاني، ثم الإفراج عنه، وإطلاق سراح داني إفكا المسجون
الإسرائيلي المتهم بتهريب ألقات لتركيا قبل انتهاء فترة الحكم عليه بخمس سنوات،
وما حدث من تصريحات تجاه النظم الحاكمة في الإمارات ومصر ثم زيارته للدولتين .
وهكذا فمن حق الشعوب العربية أن تتعامل مع النظام التركي بنفس منطق
السعي للمنافع الذي يتعامل به، فالدول العربية تستقطب حصة كبيرة من الصادرات
التركية لدول العالم، وخلال الفترة بين عامي 2008 وحتى 2023 لم يقل نصيب العرب من
الصادرات التركية عن نسبة 17 بالمائة، بل لقد وصل النصيب إلى 24 بالمائة عام 2012،
بينما كان نصيب العرب من الواردات التركية بنفس الفترة ما بين نسبة 3 إلى 10
بالمائة .
فائض تجاري مستمر مع العرب
وبالتالي فقد حققت تركيا فائضا تجاريا دائما مع العرب، وبلغت قيمة
هذا الفائض 307 مليار دولار خلال الفترة من عام 2009 وحتى العام الماضي، أي بمتوسط
سنوي 20.5 مليار دولار ، وتزداد أهمية ذلك الفائض لتركيا أنها تعاني من عجز تجارى
مزمن منذ عقود، ويتوقع استمرار هذا العجز بالعام الحالى والسنوات المقبلة، بسبب استمرار ارتفاع أسعار الطاقة التى تستورد
منها تركيا النصيب الأكبر من استهلاكها.
إن الشعوب العربية التى علقت آمالا كبيرة على الحزب والرئيس التركي طوال العقدين الماضيين، قد بدأت بالفعل فى مراجعة موقفها من الرئيس التركي، والذي تمثل في عدم الاهتمام الشعبي العربي بالإنتخابات البلدية التركية الأخيرة، مقابل اهتمامها الكبير بالإنتخابات الرئاسية التركية بالعام الماضي .
وبالعام الماضي بلغت قيمة العجز التجارى لتركيا 106 مليار دولار،
وكانت أبرز دول ذلك العجز الصين بحوالى 42 مليار دولار وروسيا حوالى 35 مليار
دولار، وسويسرا حوالى 18 مليار دولار وكوريا الجنوبية 8 مليار دولار، بينما حققت
فائضا مع العرب بقيمة 20 مليار دولار.
ربما يقول البعض إن نفس المنطق يحكم العلاقة التجارية بين تركيا
واسرائيل، والتي حققت تركيا معها فائضا خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، لكن قيمة
ذلك الفائض الذي بلغ خلال تلك السنوات أقل من 27 مليار دولار، أي بمتوسط سنوى 1.8
مليار دولار، يقل كثيرا عما تحققه تركيا مع دولة عربية واحدة وهي العراق، والتي
حققت تركيا معها فائضا قيمته 124 مليار دولار، أي بمتوسط سنوي 8.3 مليار دولار .
العرب يشكلون 10 بالمائة من السياحة
وتحقق تركيا أيضا فائضا في تجارتها الخدمية مع العرب، وهو ما يظهر
جليا في السياحة العربية الواصلة لتركيا، حيث زاد النصيب النسبي للسياحة العربية
من نسبة 3.4 بالمائة، من مجموع السياح الأجانب الواصلين لتركيا بالتسعينات، إلى
4.1 بالمائة بالعقد الأول من الألفية الحالية، ثم إلى 10.3 بالمائة بالعقد الثاني
ثم إلى 10.4 بالمائة بالسنوات الثلاثة الأولى بالعقد الثالث، والأهم من ذلك هو كم
الإنفاق الذي ينفقه السياح العرب بتركيا والمشهورين بسياحة الشراء .
وربما يرى البعض أن نفس المنطق ينطبق على السياحة الإسرائيلية
الواصلة لتركيا والتي بلغت بالعام الماضي 766 ألف سائح، بينما كان السياح من
العراق مليون و53 ألف سائح، ومن السعودية 821 ألف سائح والكويت 363 ألف سائح، من
مجمل 4.5 مليون سائح عربي زاروا تركيا بالعام الماضي، والمعروفين بإنفاقهم المرتفع
بالمقارنة للسياحة الواردة لتركيا من دول الجوار الجغرافى لها، من جورجيا وبلغاريا
ورومانيا وروسيا وايران.
أيضا هناك عمالة تركية تعمل في دول عربية أبرزها الإمارات والعراق
والكويت وقطر، وتقوم بتحويل جانب من دخولها إلى تركيا، بينما على الجانب الآخر نجد
أن العمالة السورية فى تركيا على كثرة عددها، لم تحول لبلدها في عام 2017 سوى 234
مليون دولار، لتجيء بالمركز الخامس بقيمة التحويلات الخارجة من تركيا، بعد تحويلات
العمالة الألمانية والبلغارية والفرنسية والصربية بها، حيث بلغت تحويلات العمالة
الألمانية من تركيا بنفس العام 1 مليار و637 مليون دولار .
استفادة تركية من الإتفاقات التجارية العربية
أي أن العمالة السورية بتركيا تنفق غالب دخلها فى الإقتصاد التركي، إلى
جانب استفادة تركيا من معونات الإتحاد الأوروبي لها للإنفاق على اللاجئين السوريين
بها، وتلويح تركيا لأوروبا بإمكانية السماح للراغبين في الهجرة غير الشرعية من
اللاجئين السوريين لأوروبا، كأحد عوامل الضغط التركي على الإتحاد الأوروبي.
وهكذا ومن حيث المنطق البراغماتى الذي تتبعه الإدارة التركية، فإن
تركيا مستفيدة اقتصاديا من علاقتها العربية سواء من حيث قيمة الاستثمارات التي
يضخها العرب في تركيا خاصة دول الخليج، ومن عمل شركات المقاولات التركية بالدول
العربية، كما تستفيد الشركات التركية المستثمرة بالبلدان العربية من اتفاقيات
التجارة الحرة التي تربطها مع الدول الأخرى، بما يسهل من نفاذ منتجاتها لتلك
الأسواق بلا جمارك مثلما يحدث مع الشركات التركية في مصر والأردن وغيرها.
ويجب ألا تستهين الإدارة التركية بالشعوب العربية المصابة بخيبة أمل
من موقفها الباهت تجاه الإبادة الجماعية بغزة، فهذه الجماهير هي التي لم تستجب
للدعوات الرسمية لمقاطعة البضائع التركية، مثلما حدث في السعودية والإمارات في عام
2020 وفي مصر منذ أواخر عام 2013 وما بعده. وهذه الجماهير هي التي كانت تفضل قضاء الإجازات في تركيا، بل وكانت
تفضل المسلسلات التركية سواء التاريخية أوالدراما، وكانت تتبنى الرواية التركية
فيما يخص مذابح الأرمن وغيرها، وتتعاطف مع تركيا فى خلافاتها مع فرنسا واليونان
وغيرها من الدول .
لكنها تبينت أن هناك فرقا كبيرا بين مواقف السلطان عبد الحميد تجاه
فلسطين وموقف الرئيس التركي، ولهذا ووفقا للمنطق البراغماتى التركي، على الإدارة
التركية أن تعيد حساباتها تجاه مذابح غزه حتى لا تخسر أكثر مما خسرت على المستوى
الشعبي العربي والإسلامي.