حسب سفر اللاويين، في العهد القديم: «أخذ ابنا هارون، ناداب وأبيهو، كلّ منهما مجمرته وجعلا فيها ناراً ووضعا عليها بخوراً، وقرّبا أمام الربّ ناراً غريبة لم يأمرهما بها. فخرجت نارٌ من عند الربّ وأكلتهما، فماتا أمام الربّ».
وفي الأصل (لغير العارفين بأسفار العهد القديم)، كان موسى قد كلّف هارون وبنيه لخدمة الكهنوت، وخرجت نار واُحرقت على المذبح فاعتُبرت ناراً مقدسة لا تُطفأ أبداً، وخَدَمة المذبح ملزمون باستخدام هذه النار حصرياً. ابنا هارون ارتكبا خطأ استخدام نار أخرى غريبة، فأرسل الربّ عليهما ناراً أحرقتهما، ومُنع هارون من الحداد عليهما.
ما علاقة هذه الحكاية التوراتية بحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ المدنيين
الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ غزّة؟ أبعد من هذا السؤال، ثمة آخر رديف له يقول: ما الصلة بين 1) حكاية النار التي أكلت ناداب وأبيهو، في سفر اللاويين؛ و2) ما شهدته مستوطنات غلاف غزّة، يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023؛ و3) لجوء دولة
الاحتلال إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في برمجة عمليات القصف والتدمير والاغتيالات الميدانية العشوائية و«خطأ» استهداف سيارات «المطبخ المركزي العالمي» والإجهاز على 7 منهم.
الأرجح أنّ العقل، السليم في حدوده الدنيا والخام، لن يعثر بسهولة على صلات، ذات معنى أو صواب أو ارتباط أو منطق، بين عناصر الأسئلة الثلاثة؛ إلا إذا كان حامل العقل من طراز الكاتبة الأمريكية ـ الإسرائيلية راشيل بيك، التي تصف نفسها بـ«الصهيونية الفخورة»، والتي نشرت مؤخراً مقالة بالإنجليزية في موقع «تايم أوف إسرائيل»؛ تسجل في فقراتها بوجود تلك الصلات، عبر قاسم مشترك هو نار العقاب الإلهي الذي حاق بالإسرائيليين، وسيُنزل بهم أنساق عقاب أخرى لاحقة إذا واصلوا الانقسام فيما بينهم.
ويستوي، عندها، أن يدور الشقاق الإسرائيلي ـ الإسرائيلي حول الإصلاحات القضائية، أو طرائق إعادة الرهائن الإسرائيليين، أو إعفاء/ تجنيد الحريديم في الجيش، أو الفارق بين رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو وأيّ بديل له محتمل يخرج من صفوف المعارضة.
ثمة عطب في النظام، كما تتابع بيك، سوف يتواصل حتى إذا توقفت الحرب غداً، ولن ينفع معه ذكاء اصطناعي أو محاولات لرأب الصدع لا تأخذ بعين الاعتبار الأمثولة التي تسوقها الكاتبة المشبعة بالفخار الصهيوني: أنّ أورشليم لم تسقط في يد الرومان، ولم يًدمّر الهيكل ويتشتت اليهود في أصقاع الأرض، إلا بسبب «كراهية لا أساس لها» يتبادلها اليهود فيما بينهم. ولأنّ «عودة اليهود إلى أرضنا في أمّة ذات سيادة هي معجزة لا سابقة لها في تاريخ الشعوب»، تكتب بيك؛ فـ»ليس في وسعنا تحمّل نفي آخر. ولا تحمّل فشل أنظمة أخرى في بلدنا».
والحال أنّ الاستيهامات التي تدفع أمثال بيك إلى الخلط بين حكايات العهد القديم ومآزق العهد الصهيوني الجديد (حيث الكيان يسابق الزمن نحو أسوأ منظومات العنصرية والاستيطان والتعصب الديني والفاشية والأبارتيد…)؛ ليست، في ركائزها الدنيا والعليا على حدّ سواء، سوى طراز صارخ من هستيريا جَمْعية تبيح لأبناء هارون القرن الـ21 أن يحترقوا بنيران إسرائيلية، في ميادين القتال تارة، أو قبلها في مستوطنات الغلاف، من دون اضطرار إلى نار مقدسة إذْ لا يحتاج أبناء نتنياهو ويوآف غالانت وإسحق هرتزوغ إلا إلى ذكاء اصطناعي فاشي همجي في معظم الحالات، يحدث في حالات قليلة أن يكون أيضاً: غبياً خاطئاً عشوائياً.
وليس تفصيلاً عابراً أنّ انتهاج هذا الطراز من الاستيهام الهستيري يأتي من كاتبة صهيونية تقيم على شواطئ الباسيفيكي، ولكن يتوجب أنها تبصر بأمّ العين تحوّلات نظرة الرأي العام، في أربع رياح الأرض وفي بلدها أمريكا ذاتها، إلى هذه «المعجزة» التي لم تترك جريمة حرب إلا واقترفتها؛ وتقترفها، صباح مساء.