نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرا تحدثت فيه عن اكتشاف
غيانا مخزونا كبيرا قبالة سواحلها، ما اضطرها إلى إدارة الانطلاقة المذهلة لاقتصادها.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنه في ظل خطر الاعتماد المفرط على المكاسب غير المتوقعة من الذهب الأسود، فقد توسعت فجوة عدم المساواة.
وتضيف الصحيفة أنه منذ اكتشاف مخزون نفطي ضخم على بعد 200 كيلومتر قبالة الساحل فإنه تضاعف الناتج المحلي الإجمالي في أربع سنوات فقط ثلاث مرات للدولة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة.
التطور الفوضوي للمدينة
مع ارتفاع الإيرادات، وبالتالي النفقات، فإنه أصبح إعداد الموازنة البلدية بمثابة مشكلة. وبسبب التطور الفوضوي للمدينة أصبحت برامج التخطيط الحضري قديمة الطراز وتزايدت طلبات الحصول على تراخيص البناء الجديدة.
وأدى اكتشاف حقل نفطي في 20 أيار/ مايو سنة 2015 إلى تغيير مصير غيانا، الدولة الصغيرة الواقعة في
أمريكا الجنوبية بين سورينام وفنزويلا والبرازيل ولا تزيد مساحتها على ثلث مساحة فرنسا. وٱعلن يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2019، تاريخ بدء التنقيب، "اليوم الوطني للنفط".
وصل إجمالي الاحتياطيات إلى 11 مليار برميل، وهو ما يضع غيانا في المرتبة السابعة عشرة في الإنتاج العالمي. ونظرا لاحتوائها على هيدروكربون سائل، نقي نسبيًّا وبالتالي أرخص في استخراجه، فإن غيانا تحقق هوامش ربح أكثر. وتعد قيمة احتياطيات
النفط للفرد ثاني أعلى قيمة في العالم، بعد الكويت مباشرة ومتقدمة بفارق كبير عن السعودية والإمارات.
وتتواصل الاكتشافات الجديدة، ما يثير اهتمام الدول الأخرى بما في ذلك فرنسا، التي سيقوم رئيسها إيمانويل ماكرون، بزيارة غيانا بين 24 و26 مارس. في هذا الصدد يقول منسق الأمم المتحدة المقيم في غيانا، يسيم أوروك: "لم نشهد قط تطور دولة بهذه السرعة، وما يحدث الآن يبدو كأنه أرض مجهولة بالنسبة لنا جميعا".
لا يزال هناك الكثير من الفقراء
وأفادت الصحيفة بأن المكاسب النفطية المفاجئة هذه تصيب المراقبين بحالة من شرود الذهن. إن الدولة، التي كانت واحدة من أفقر الدول في أمريكا، والتي كان اقتصادها حتى ذلك الحين يعتمد بشكل أساسي على الزراعة واستخراج الذهب والبوكسيت، في طريقها لأن تصبح واحدة من أغنى الدول. تتعجب الصحف المحلية من ظهور عالم جديد يتمثل في إنشاء أول طريق سريع في عام 2022، وأول سلسلة ستاربكس في عام 2023، وأول محطة لتوليد الطاقة بالغاز مخطط لها في عام 2025، وقريبًا أول ميناء للمياه العميقة.
وأوردت الصحيفة أنه رغم ازدياد غيانا ثراءً، فإن نسبة الفقر لا تزال مرتفعة ويعيش 40 بالمئة من السكان تحت خط الفقر المحدد بـ 5.50 دولار في اليوم، ولا يستفيد جميع السكان من أموال النفط.
وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن السكان يعانون من ارتفاع في الأسعار حيث ناهزت نسبة التضخم الـ5 بالمئة بسبب فورة النشاط الاقتصادي.
في هذا الصدد يشير ثيودور كان، من مكتب إدارة المخاطر، إلى أن الحكومة تحاول احتواء التضخم من خلال خفض رسوم الاستيراد وضريبة القيمة المضافة، ما قد يؤدي إلى خطر تعزيز اعتمادها على عائدات النفط.
وفي ظل اجتذاب صناعة النفط القادمين الجدد، فإنها ارتفعت أسعار العقارات. في المقابل، تتراجع مؤشرات التنمية، بحيث ارتفعت نسبة الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون من سوء التغذية الحاد من 0.2 بالمئة في سنة 2019 إلى 0.5 بالمئة في سنة 2023، وارتفع معدل وفيات الرضع خلال الفترة نفسها من 9.11 لكل ألف رضيع إلى 10 لكل ألف.
ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، فإن ما بين ثلث ونصف السكان يجدون صعوبة في توفير الغذاء الصحي. ومن أجل مساعدة الأسر فقد ارتأت الحكومة زيادة الدعم. ففي منتصف كانون الثاني/ يناير، أعلن وزير المالية أمام البرلمان عن زيادة في المكافآت المدفوعة لكل طفل في المدرسة، وسداد القروض التي حصل عليها الطلاب في جامعة غيانا، وزيادة في معاشات التقاعد وضرائب التأمين الصحي القابلة للخصم.
ومع ذلك؛ فإن هذه الأموال لا تكفي لتهدئة نفاد صبر السكان. بدورها تكافح جمعية الخيط الأحمر، التي تجمع النساء من جميع الطوائف في البلاد، ضد العنف المنزلي والتمييز العنصري ومؤخرًا ضد ارتفاع الأسعار. ولم يعودوا يثقون في الإحصائيات الرسمية ويسجلون التغيرات في أسعار المواد الغذائية الأساسية في دفاتر ملاحظاتهم.
في هذا الصدد، تقول جوي ماركوس: "الحياة أصبحت أكثر غلاء مع ارتفاع الأسعار". أما حليمة خان فتتساءل عن فائدة المساعدات في حال لم يكن المعلمون مؤهلين بشكل كاف، في ظل تردي جودة الكتب المدرسية وغياب الحافلات المدرسية. ويقول شخص آخر: "تبني الحكومة المستشفيات وتجلب الأطباء والممرضات من كوبا، لكن من المستحيل التحدث معهم لأنهم لا يفهمون اللغة الإنجليزية". بدوره أفاد النائب المعارض أمانزا والتون ديسير: "إنها تقدم الإعانات، ولكن يتعين عليها تحسين الخدمات العامة وتعزيز قدرة الإدارة".
الفساد "التهديد الرئيسي"
وأوضحت الصحيفة أن تعزيز قدرات الإدارة المحلية أصبح الشعار الجديد للأمم المتحدة التي لم تعد غيانا بحاجة إليها لتوزيع اللقاحات أو المساعدات الإنسانية.
في هذا الصدد، يقول لوكاس بيريلو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماريست الأمريكية إنه مع تدفق الأموال بحرية في بلد ذي مؤسسات هشة، فإن الفساد يشكل التهديد الرئيسي للتنمية. تحتل البلاد المرتبة 87 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية غير الحكومية الصادر سنة 2023.
في الحقيقة، لا تقدم صناعة النفط فقط أفضل الرواتب وتجذب أفضل المواهب، بل تهدد زيادة الصادرات وارتفاع قيمة العملة بخسارة بقية الاقتصاد لقدرته التنافسية. ومع ذلك، فإن استخراج النفط يساهم بالفعل في نصف الناتج المحلي الإجمالي. ومع أدنى انخفاض في الأسعار، يواجه الاقتصاد خطر الانهيار، وهو ما تدركه غيانا التي عانت بالفعل من انخفاض أسعار المواد الخام في الثمانينيات، عندما كانت تعتمد فقط على البوكسيت أو الذهب أو قصب السكر.
فخ التفاؤل المفرط
ويتساءل توماس سينغ، أستاذ الاقتصاد في جامعة غيانا عن ما إذا كان يمكن تنويع الاقتصاد من خلال الإعانات، قائلًا إنه لكي يتنوع الاقتصاد بشكل حقيقي، فإنه ينبغي تطوير القطاعات لتصبح قادرة على المنافسة دون دعم من الدولة، مضيفًا أن الإعانات غير مجدية دون سياسة اقتصادية.
ينبغي أن يشمل التنويع الجغرافيا أيضاً، حتى تعود الثروة المشتقة من النفط بالنفع على المنطقة بأكملها. ففي مكتبه الصغير في حرم جامعة غيانا، استخلص أولواسينايومي فيث قاسم الدروس من تجربة نيجيريا، بلده الأصلي، الذي عانى من حمى الذهب الأسود قبل أن يعاني من المحسوبية والفساد وعدم المساواة، قائلا: "إن صناعة النفط البحرية تعزز التنمية الساحلية على حساب بقية البلاد، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة".
في هذه الحالة فإن الأمريكيين الأصليين، الذين يمثلون 10 بالمئة من السكان ويعيش أغلبهم في غابات الأمازون، معرضون لخطر التهميش بسبب الطفرة النفطية. لكن صوتهم، الذي يحسم بين أحد الحزبين الرئيسيين في السلطة في كل انتخابات، يجذبهم إلى تأييد الحكومة التي تضاعف برامج المساعدات.
وأشارت الصحيفة إلى أن الاستثمار في المناطق الداخلية من البلاد قد يساعد في منع آثار ظاهرة الاحتباس الحراري. ففي أوائل سنة 2023، وقعت الحكومة عقودا بقيمة 10 ملايين دولار لبناء مدينة جديدة ذكية وخضراء، "مدينة سيليكا"، قادرة على استيعاب ما يقرب من خمسين ألف ساكن، على بعد حوالي 80 كيلومترا جنوبي جورج تاون. ومع ذلك، فإنه يتم تجاهل مسألة تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري في البلاد، التي يلوح قادتها بحياد الكربون بفضل الغابة التي تغطي 90 بالمئة من أراضيها. وقد اشترت مؤسسة "هس" بقيمة 750 مليون دولار من أرصدة الكربون من البلاد.
إن استغلال النفط والتعهد في نفس الوقت بمكافحة الانحباس الحراري العالمي، وإنتاجه في أسرع وقت ممكن قبل أن تنخفض أسعار البرميل، وتلبية توقعات السكان من دون التضحية بالاستثمارات الطويلة الأجل في البنية الأساسية مهمة حساسة للحكومة.
وفي دراسة مخصصة للدول المنتجة للنفط نشرت في كانون الثاني/ يناير من سنة 2022، يوضح صندوق النقد الدولي أن التفاؤل المفرط بشأن النمو المستقبلي يزيد من مخاطر الديون المالية أو أزمات ميزان المدفوعات.
وفي ختام التقرير نوهت الصحيفة إلى أن مؤلفي الدراسة يلفتون الانتباه إلى "نفاد صبر" الزعماء السياسيين، الذين يستعجلون جني الثمار السياسية الناجمة عن مكاسب النفط غير المتوقعة، الأمر الذي قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات متسرعة.
للاطلاع على النص الأصلي (هنا)