ما
يسمى بـ"الفيتو"، أي حق إبطال أي مشروع قرار الذي تتمتع به الدول الكبرى
في مجلس الأمن، يجعل المجتمع الدولي عاجزا عن فعل أي شيء أمام كل
الجرائم التي
تهدد الأمن الإقليمي والعالمي في آن واحد. ومن ثم فالمجتمع الدولي على مستوى القيادات قد سقط سقوطا مدويا
أفقده مصداقيته، في حماية العدالة.
وجرائم
إسرائيل نماذج لحرب إبادة من نوع غير مسبوق، فلا تمر ساعة واحدة إلا وترتكب مذبحة
يذهب ضحيتها أكثر من مئة شخص أغلبهم من النساء والأطفال ولذلك تصنف من أفظع
الجرائم ضد الإنسانية، ومع ذلك فالفيتو الأمريكي يمنع من إدانتها حتى الآن، رغم
مرور أكثر من مئة وخمسين يوما على تلك الحرب ولا زالت إسرائيل تفعل ما تريد، فتهدم
البيوت على سكانها، وتزيل من الوجود مربعات سكنية بكاملها وتسويها بالأرض بشرا
وحجرا، وتدمر المستشفيات والمدارس وأفران الخبز ومراكز الإيواء، وتفرض الجوع
والعطش والحرمان من الكهرباء، وتمارس الإبادة بطرق مختلفة ومنها مذبحة استهداف
المدنيين وهم يتلقون الطعام.
ومع
ذلك ترفض الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها من الدول الكبرى إدانتها في مجلس الأمن،
وتوفر لها الضمان والحماية الكاملة، كما توفر لها احتياجاتها العسكرية من أسلحة وذخائر
ومعدات وأدوات الحرب الذكية لتمارس القتل والإبادة بأريحية وتفوق.
هذا الفعل المستفز من تلك الدول الكبرى يحولها من حليف إلى شريك في جريمة الإبادة الجماعية، كما يجرح شهادتها وإدانتها للمقاومة، ويظهر تحيزها وعوار موقفها في إدراجها للمقاومة ضمن قوائم الإرهاب
"رمتني بدائها وانسلت"
هذا
الفعل المستفز من تلك الدول الكبرى يحولها من حليف إلى شريك في جريمة الإبادة
الجماعية، كما يجرح شهادتها وإدانتها للمقاومة، ويظهر تحيزها وعوار موقفها في
إدراجها للمقاومة ضمن قوائم الإرهاب.
ولعل
المثل العربي هنا "رمتني بدائها وانسلت" يجسد حالة دول الغرب الكبرى (أمريكا
وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا).
فهل
رأت الدنيا عدالة عاطلة عن العدالة ومفرغة من كل معنى للعدل والإنسانية أشد قبحا
من ذلك؟
تراكم
الخبرة حول الجرائم لدى خبراء القانون والمتخصصين في علم الجريمة يفيدنا بأن
التحيز موجود، وفي كل قوانين الأرض ثغرات وفجوات تحتاج أن تعالج، ورقي الإنسانية
وتطورها في مجال الحقوق يحاول سد تلك الفجوات ومعالجة هذا الخلل، فلماذا نتشاءم؟
لكن
ذلك يفيد عندما يتمحور القانون بنصوصه حول البحث عن الحقيقة ليتم تطبيق العدالة، أما
أن تكون العدالة في حالة غياب كامل، وأن ما يسود في القانون هو العمى الإرادي
والتحيز المطلق وبتلك الصور الفجة والمخلة بكل قواعد الأخلاق والرجولة والإنسانية،
فإن الأمر هنا تجاوز العدالة ليفرض الظلم فرضا، وبذلك الشكل الموغل في البشاعة،
الأمر الذي يصنع واقعا لا يتصوره بشر.
بلا
شك أن هذا الأمر خطير للغاية، وصمت الأنظمة والمجتمعات الدولية على هذا الخطر ساعد
ليس فقط على وجوده ابتداء، وإنما على استمراره وتكراره وممارسته لأكثر من مرة، من
هنا كانت استهانة الجاني بردود الفعل، فالكلمات الجوفاء التي تنتسب إلى عائلة
الشجب والإدانة والاستنكار أضحت لا تخيف مجرما، ولا تردع لصا يسرق أمن الناس
وحريتهم وسلامهم الجسدي والنفسي، فضلا عن أرضهم ومقدساتهم.
إفلات
المجرم الجاني من العقاب دوما له آثار موحشة وقد تكون كارثية على الحياة والأحياء
معا؛ إذ تفقد الحياة قيمتها ومعناها حين تتحول إلى غابة لا يحكمها إلا قوانين
الوحوش.
وانحياز
الدول الكبرى وبهذا الشكل المفضوح يساعد على تقوية الأقوى وإضعاف الأضعف، كما يغري
المجرم بالبحث عن تبرير لإجرامه بصيغ دينية مفتراة لا تخضع عادة للنظر والبحث،
باعتبارها أوامر للرب يجب تنفيذها كطاعة وعبادة.
وفي
تقرير مصور وموثق وقف نتنياهو في ٢١ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ يحكي حكاية من "سفر
أشعياء" تتحدث عن الصراع بين "أبناء النور وأبناء الظلام"، وأن
أبناء النور لديهم تصريح من الرب بحرق الأخضر واليابس وقتل كل ما يتحرك على الأرض:
"فالان اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما لهُ ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلا
وامرأَة. طفلا ورضيعا. بقرا وغنما جملا وحمارا."
أبناء
النور هنا لا بد أن ينتصروا طبعا، لأن زعيمهم ينطلق في حربه من منطلق الاستباحة
العامة لدماء من هم من غير دينه، باعتبارهم أغيارا، وأدنى من الحيوانات. وعندما
تعترض على هذه الدعوة الصريحة للإبادة وحرق كل شيء حتى الحيوانات تُتهم بأنك معاد
للسامية، وربما تخضع للعقوبة والسجن في بلاد الحضارة والنور والديموقراطية واحترام
حقوق الإنسان..!! فهل مر على الدنيا في تاريخ وجودها عبث مثل هذا العبث..؟
القصة
ذاتها كانت مادة لحديث وزير الدفاع يوآف غالانت وهو يطلق العنان لمهرجان القتل
الجماعي، في إشارة صريحة لجنوده وضباطه بمنع أهل
غزة من الحصول على ضرورات الحياة كالماء
والكهرباء والوقود كوسيلة للحرمان وحرب الإبادة، لدرجة أن أحد الضباط اجتهد وبالغ
في تنفيذ الأوامر فقدم لابنته في عيد ميلادها هدية عبارة عن مكالمة هاتفية يهنئها
بعيد ميلادها وتبدأ التهنئة بإشارة بنسف منزل مكون من عدة طوابق في غزة.
الحادثة
وثقت صوتا وصورة ورآها الناس في كل الدنيا لتكون شاهدا على الهمجية واغتيال
العدالة وسقوط قادة الغرب الأخلاقي الذي صدع رؤوسنا بالحديث عن العدالة والحرية
وحقوق الإنسان.
هذا
التخريف يتحول إلى عقيدة لدى اليمين المتطرف فيصبح القتل عبادة لدى قادة الكيان
الصهيوني، وشعبه وجنوده، وتدفعه تلك الخرافة إلى مزيد من تكرار الجريمة ذاتها،
وربما يبدع ويمعن فيما هو أخطر من ذلك، إذا كانت هناك خطورة أكثر من المذابح
والإبادة الجماعية وارتكاب الجرائم في حق البشر، ولذلك يزول العجب عندما تنقل
الأنباء إلينا أن وزيرا من تلك العصابة يقترح قذف غزة بقنبلة ذرية!!
الهوس
بتلك النصوص يحول الحياة إلى جحيم مستعر، رغم أن التوراة الحقيقية بريئة منه، إذ
لا يمكن أن تكون هناك رسالة سماوية تحرض شعبا بكامله على اغتيال الحياة بما فيها
النساء والأطفال وحتى الحمير والأغنام والإبل (بل اقتل رجلا وامرأَة، طفلا ورضيعا،
بقرا وغنما جملا وحمارا).
مجرد
رؤية تلك النصوص أمام العين كقراءة فقط تشكل صدمة عقلية حين تنسب إلى الله افتراء
وكذبا لتسويغ القتل، وتدفع كل عاقل إلى رفض تلك الخرافة، رغم أنها تحولت في الواقع
إلى مذابح للمدنيين العزل بما فيهم النساء والأطفال، وشكلت صدمة أخلاقية وإنسانية لكل
حر.
والإشكالية
الكبرى أن هذا الإجرام يتكرر كل يوم وتنقله وسائل الإعلام صوتا وصورة، ويراه الناس
ثم ينصرفون بعده إلى أعمالهم.
تعوُّد البشر على رؤية تلك المذابح مع تكرارها يخلق نوعا من البرودة والبلادة النفسية، ويجعل الإنسان قابلا مع الوقت إلى التطبيع مع صور الجريمة رغم بشاعتها، لأن العين ألفت الصور مع تكرارها، يضاف إلى ذلك فقدان الإحساس بخطورتها وآثارها المدمرة لكل أنواع الحياة، الأمر الذي يجعل رد الفعل هنا باهتا وهزيلا ولا يتناسب مع حجم الجريمة.
وهذا بدوره يغري المجرم الجاني بتكرار الإبادة الحالية تلبية لأطماعه غير المحدودة
وتعوُّد
البشر على رؤية تلك المذابح مع تكرارها يخلق نوعا من البرودة والبلادة النفسية،
ويجعل الإنسان قابلا مع الوقت إلى التطبيع مع صور الجريمة رغم بشاعتها، لأن العين
ألفت الصور مع تكرارها، يضاف إلى ذلك فقدان الإحساس بخطورتها وآثارها المدمرة لكل
أنواع الحياة، الأمر الذي يجعل رد الفعل هنا باهتا وهزيلا ولا يتناسب مع حجم
الجريمة.
وهذا
بدوره يغري المجرم الجاني بتكرار الإبادة الحالية تلبية لأطماعه غير المحدودة، وقطعا
سيختار ميدان جريمته المقبلة في أكثر المناطق تعايشا وتطبيعا مع تلك الجريمة، وطبيعي
ومنطقي من وجهة نظره أن يختار منطقتنا العربية، لأنها هي الأسهل والأقل تكلفة واعتراضا
وضجيجا، وأيضا هي المنطقة الأقل إحساسا بخطورة المذابح والأكثر صمتا وهدوءا. وبالطبع
ستكون تلك المناطق داخلة ضمن خريطة أطماعه من النيل إلى الفرات أو من البحر إلى
النهر كما يدعي، ومن ثم تُكافأ مجتمعات التطبيع والصمت التي صمتت وخرست على ما حدث
في فلسطين بتكرار الإبادة التي تحدث الآن في غزة، لأن السيد الجديد قرر أن يستغني
عن خدمات بعض عبيده تنفيذا لخطة أصحاب نظرية "المليار الذهبي" في التخلص
من أغلب سكان الأرض.
وفي مثل هذه الحالات تكون البداية
عادة باستبدال وسائل النقل والمؤن لتواكب العصر الجديد وهم -الأغيار- في نظر واضعي
التلمود "الخيل والبغال والحمير"، فالأغيار في لغة التلمود حَمِير
خُلِقوا ليركبهم شعب الله المختار، فيقول التلمود: "إن الأُمَمِيين هم
الحَمِير الذين خلقهم الله ليركبهم شعبُ الله المختار، فإذا نفق منهم حمار، ركبنا
منهم حمارا"؛ كما يتم تبديل خدم وعبيد الأمس، مهما كانت درجة طاعتهم واستجابتهم
لمطالب السادة، لأنهم من عصر مضى وانقضى.
فليهنأ
سادتنا وعبيدهم بالتغيير القادم، ولتهنأ
شعوبنا كما تعودت بصمت القبور، إن بقيت على قيد الحياة، وهذا أمر مشكوك فيه، غير أن
المؤكد أن مواقف زعمائنا في تلك الأزمة شطبتها من قيد الحياء.