أثارت زيارة الجنرال المتقاعد بيني
غانتس عضو مجلس الحرب ورئيس «حزب الدولة»، غضبا شديدا لدى بنيامين
نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي رفض المصادقة على الزيارة وسارع إلى إصدار توجيهات إلى السفير الإسرائيلي في واشنطن مايك هرتسوغ، بعدم مرافقة غانتس في زياراته، وبالامتناع عن تقديم أي مساعدة له. وحرص نتنياهو على توجيه رسائل إلى الإدارة الأمريكية بأن غانتس جاء بشكل «شخصي» بلا انتداب من الحكومة، ولا يمثّل سوى نفسه وحزبه، وليس مخوّلا للتوصّل إلى أي تفاهمات، وإن توصّل إليها فهي ليست ملزمة للحكومة الإسرائيلية.
وأرسل مكتب نتنياهو تعليمات مماثلة لسفيرة إسرائيل في بريطانيا تسيبي حوطوبيلي، جرى التشديد فيها على مقاطعة زيارة غانتس إلى لندن، بما يشمل عدم تنسيق قضية الحراسة الشخصية الحساسة لمن كان رئيسا للأركان، ووزيرا للأمن وعضوا حاليا في مجلس الحرب.
حاول نتنياهو إقناع غانتس بإلغاء الزيارة، ولكن الأخير تجاهل محاولات وضغوط نتنياهو، وسافر إلى الولايات المتحدة وبريطانيا مسطّرا أسبقية غير معهودة بقيام وزير بزيارة سياسية إلى الخارج يعارضها رئيس الوزراء، ولا تحظى بمصادقة من الحكومة. وعبّر وزراء وصحافيون من اليمين عن معارضتهم للزيارة، وشنّوا هجوما كاسحا على غانتس، واعتبروا ما قام به «عملا غير وطني» يسبب «ضررا كبيرا» للدولة الصهيونية وهي في حالة الحرب، وشهدت وسائل التواصل الاجتماعي حملة منظمة ضد غانتس، وارتفعت أصوات تدعو نتنياهو إلى إقالته من الحكومة.
يبدو على المدى القريب أن زيارة غانتس لن تؤدّي إلى تفكيك ائتلاف الحرب الإسرائيلي، الذي يضم نواب حزب «معسكر الدولة»، الذي يتزعمه غانتس، إضافة إلى تحالف اليمين القائم قبل الحرب، ويضم أحزاب الليكود والصهيونية الدينية وشاس ويهودت هتوراة. نتنياهو يملك قانونيا صلاحية طرد أي وزير لا يلتزم بمواقف الحكومة، لكنه لن يبادر إلى إقالة غانتس لأنّه يخشى العواقب المتمثلة في زيادة التوتّر مع المؤسسة الأمنية، التي يعّبر غانتس عن مواقفها، وهو عمليا ممثلها في الحكومة، وكذلك يحسب نتنياهو ألف حساب لإمكانية اندلاع احتجاجات واسعة ومؤثّرة تطالب بانتخابات سريعة. وأكثر ما يُرعبه أن تؤدّي مثل هذه الإقالة إلى المزيد من الارتفاع في شعبية غانتس العالية أصلا في كل الاستطلاعات، وإلى تراجع إضافي في قوة الليكود. هذا لا يعني أن نتنياهو معني ببقاء غانتس وحزبه في الحكومة، بل هو يريده أن يستقيل ويترك الحكومة، ليسهل بعدها اتهامه بالهروب من المسؤولية وتفضيل المصلحة الشخصية والحزبية على أداء واجب المشاركة في الدفاع عن الدولة وهي في حالة حرب. ويرى نتنياهو أن الاستقالة تحطّم شعبية غانتس، لكن الإقالة تعززها. تساهم هذه المعادلة في بقاء غانتس وايزنكوت في الحكومة، على الرغم من ضغوط حركات الاحتجاج عليهما للانسحاب والتسريع في إسقاط حكومة نتنياهو.
قد تكون النتيجة الأهم في زيارة غانتس هي التوصل إلى تفاهمات حول اجتياح رفح.
يعتبر غانتس المنافس الأقوى لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، ووفقا للاستطلاعات يحصل حزبه على ما يقارب 40 مقعدا مقابل أقل من 20 مقعدا لحزب الليكود، ولكنه لا يسارع إلى الانسحاب من الحكومة، لأن تبكير الانتخابات غير مضمون. ويعتقد الكثيرون أن دخوله الحكومة هو العامل الأهم في ارتفاع قوته الانتخابية، والانسحاب قد يفقده الكثير منها. ومع ذلك، يرى المراقبون أن غانتس سيترك الحكومة إذا كانت هناك صفقة تبادل أسرى وهدنة تقبل بها المؤسسة الأمنية ويعرقلها نتنياهو، أو إذا جرى تمرير قانون إعفاء الشباب المتدين ـ الحريديم من الخدمة العسكرية. في مثل هاتين الحالتين يرى غانتس أن استقالته مفيدة له، خاصة أنها ستركب موجة احتجاج واسعة في المجتمع الإسرائيلي، هي على الطريق في كل الأحوال.
تأتي زيارة غانتس إلى الولايات المتحدة تعبيرا عن رغبته في تمييز نفسه عن نتنياهو، وسبق ذلك عدم الانضمام إلى المؤتمرات الصحافية لنتنياهو، والظهور بشكل مستقل عنه. وليس واضحا في ما إذا جاءت الزيارة بدعوة من الإدارة الأمريكية، أم هي مبادة منه، ولكن الواضح أن الطرفين كانا متحمسين لها. الدليل على ذلك هي سلسلة اللقاءات على أعلى المستويات في واشنطن. صحيح انها لم تشمل الرئيس جو بايدن، لكنها ما كانت لتتم بهذا المستوى لولا مباركته. فقد التقى غانتس في واشنطن وزير الخارجية انتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سليفان، ووزير الدفاع لويد أوستن، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط بيرت ماكغورك، إضافة إلى قيادات بارزة في الكونغرس. وفي العرف الدبلوماسي، هذه ليست لقاءات وزير عادي، بل وزير برتبة رئيس وزراء، والرسالة بادية وهي أن إدارة بايدن تريده لهذا المنصب بدلا عن نتنياهو.
لا يوجد أي فرق بين بيني غانتس ونتنياهو بكل ما يخص المسؤولية عن جريمة الدمار الشامل وجناية الإبادة الجماعية. كما لا فرق بينهما في «التصميم» على مواصلة ارتكاب الجرائم. وتوجهات الاثنين منسجمة إلى حد كبير بكل ما يخص الشأن العسكري، مع بعض التباين في التعامل مع صفقة التبادل وفي تفاصيل رؤية ما بعد الحرب. الخلاف الكبير بينهما، الذي يتجه نحو منافسة طاحنة، هو الصراع على السلطة وعلى كرسي رئيس الوزراء، الذي يتسع مداه وتزداد حدته. ولا تخلو المواقف من الأعمال القتالية والتبادل والهدنة واليوم التالي، من الاعتبارات الحزبية الانتخابية، لكن يجب عدم المبالغة في أهميتها. هي حقا تؤثّر في المشهد الإعلامي، لكنها أقل شأنا في جلسات مجلس الحرب، الذي تشارك فيها أيضا قيادة الجيش والمخابرات. ترتبط زيارة غانتس إلى الولايات المتحدة بحساباته الشخصية والحزبية وسعيه لكسب المزيد من الشعبية في الشارع الإسرائيلي، والتنسيق مع الإدارة الأمريكية في مسائل تخص الحالة السياسية في إسرائيل وأخرى لها علاقة مباشرة بالحرب. والمصيبة أن المسؤولين الأمريكيين أكثر قابلية للاقتناع بما يقوله غانتس مقارنة بنتنياهو، وعليه فهو أكثر خطورة. على رأس غايات زيارة غانتس شرح أهمية الحملة العسكرية على رفح المكتظة بما يزيد عن 1.3 مليون فلسطيني. وبموجب التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام، قال غانتس لمضيفيه بأن إسرائيل مجبرة على «تطهير المدينة من مقاتلي حماس.. حتى لا يعيدوا تنظيم وتسليح أنفسهم عند وقف إطلاق النار.. فإنهاء الحرب دون «الاعتناء» برفح تشبه إطفاء 80% من الحريق».
وقام غانتس بحراك داخل الكونغرس لإقناع أعضائه بالإسراع في تحويل المليارات، التي أقرتها الإدارة الأمريكية، وعدم ربطها بدعم أوكرانيا، وسعى كذلك إلى تأكيد التدفّق السلس للمزيد من الأسلحة والذخائر لاستعمالها في حرب الإبادة في غزة. كل هذا لضمان استمرار الحرب وزيادة قدرات الجيش الإسرائيلي على ارتكاب المزيد من المجازر، تحت غطاء «ملاحقة حماس». أما الإدارة الأمريكية فحاولت باستقبالها غانتس أن توجه صفعة لبنيامين نتنياهو، الذي لا ينسجم معها استراتيجيا، وصار بنظرها عائقا أمام تحقيق مصالحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط. والرسالة الأمريكية هي أن الولايات المتحدة اليوم في خلاف مع نتنياهو وعلى توافق مع إسرائيل.
قد تكون النتيجة الأهم في زيارة غانتس هي التوصل إلى تفاهمات حول اجتياح رفح. هو قال لمسؤولي الإدارة الأمريكية أن إسرائيل قادرة وجاهزة للإيفاء بالشروط الأمريكية المتعلقة بخطة إخلاء أكثر من مليون إنسان من المدينة ومحيطها، ووعد بالعمل على زيادة المعونات الإنسانية وكرر كذبة «الالتزام بتجنّب المس بالمدنيين». ويبدو أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تفضّل أن يتحدث غانتس إلى الأمريكيين لإقناعهم بإزالة تحفظاتهم على عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في رفح. وقد تكون الزيارة برمتها جاءت بالاتفاق مع قيادة الجيش، التي لم تعد تثق بنتنياهو. حتى لو كانت زيارة غانتس لواشنطن محط خلاف في القيادة الإسرائيلية، الا أنها تندرج في إطار الفعل السياسي الداعم للجهد العسكري. والسؤال أين الفعل السياسي العربي؟ الدول العربية لا تشارك في المعارك لا من قريب ولا من بعيد، ولا تفعل شيئا لحماية أهل غزة الجريحة، لكن ألا تستطيع على الأقل أن تقوم بجهد سياسي مؤثّر؟ في الواقع، هي تستطيع، والأمر يتعلق بالإرادة الذاتية وليس بالظرف الموضوعي. ألا يكفي 40 ألف شهيد فلسطيني لتحريك ضمير الحكام العرب، وإلى متى سيبقى هذا المضير مستترا؟
المصدر: القدس العربي