أعجبني
وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال تعبير قيّم فيما يحمله من معان "
العبادة
الصامتة"؛ والذي يستصحب مفهوم العبادة الشاملة استنادا إلى الآية "وَمَا
خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ"؛ وإلى المغزى الذي تشير
إليه الآية "إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"..
العبادة
مسيرة حياة مستمرة؛ فالعبادة في اللغة الخضوع وقد تستعمل بمعنى الطاعة، وفي
الاصطلاح هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة
والباطنة. وإذا كانت العبادة شاملة للفعل والترك
والواجب والمستحب والمباح، صح أن يقال: إن العبادة تشمل نظام الحياة كله.
بهذه النظرة الشاملة تقسم العبادة إلى قسمين: أولا:
عبادة شاملة لأعمال الإنسان المشروعة جميعها، فكل عمل دنيوي يلتزم فيه المسلم
بتقوى الله وبالإخلاص والصدق والأمانة يكون عبادة؛ ثانيا: عبادة مخصوصة تتمثل في الواجبات الدينية كالصلاة والصوم
والزكاة والحج وتلاوة القرآن الكريم والأدعية والأذكار وغيرها، وهذا القسم هو
المعروف لدى الناس بالعبادات والشعائر، ويظن البعض أن العبادات تنحصر بهذا القسم،
ويتجاهلون القسم الأول من العبادة مع أن العبادة بمدلولها الشامل تعني الدين كله.
المقاطعة أوسع أنواع المقاومة المقاطعة من جنس النهي الشرعي، والمقاطعة عبادة معقولة صامتة، قام فيها الشيخ بالتأصيل الدقيق للفعل المقاطع المقاوم، بعلم عميق وعمل صحيح ورؤية كلية ومقاربة تجديدية لحقائق الشرع العالية، في سياقات تكامل أبعاد المقاومة للعزة والكرامة، وتعزيز الجهود والقصود بالممكن المتاح والمنجز المستمر
إن الله تعبّدنا بأنواع العبادات الظاهرة والباطنة
والفعلية والقولية والبدنية والمالية والعامة والخاصة؛ فشرع هذا التنويع ليتحقق كمال
التأله لله، وتنفتح أبواب الخير والفاعلية أمام المكلف، ويتجدد الاستنفار والرغبة
العازمة في العمل؛ في الفعل والتفعيل. إن العبادة وارتباطها بالعقيدة التوحيدية
أمر مستقر ومقرر؛ لا تكون إلا لله الواحد الأحد، لا شريك له. ويقول عز وجل: "فمن
كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا"، فالإسلام
يحرم كل ما يؤدي إلى عبادة غير الله.
إن
الباعث الأساسي للعبادة هو استحقاق الله تعالى لذلك، فنحن نعبد الله جل وعلا لأنه
مستحق للعبادة تحقيقا للغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن كما قال الله تعالى: "وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، فهو المستحق الوحيد
للعبادة لعموم سلطانه على الكون وعظيم فضله على الخلق أجمعين. وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام
هو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام جميعا، وهو ثابت من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ،
فما من نبي إلا أمر قومه بالعبادة، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنَا فَاعْبُدُون".
إن
التساؤل المهم الذي طرحه الشيخ المجتهد الأستاذ نور الدين الخادمي؛ في سياق "شاهدُ
الصيام" الذي يشتمل شواهد على "العبادة التركية" والتعبّد
الصامت الكامن في أصالة الامتناع الشرعي؛ فهل
المقاطعة والحال هذه من جنس
العبادات الصامتة؟ والشيخ إذ يطرح هذا السؤال تقدّم ليقدم رؤية اجتهادية
وتجديدية رصينة ومكينة..
المقاطعة
أوسع أنواع
المقاومة المقاطعة من جنس النهي الشرعي، والمقاطعة عبادة معقولة صامتة،
قام فيها الشيخ بالتأصيل الدقيق للفعل المقاطع المقاوم، بعلم عميق وعمل صحيح ورؤية
كلية ومقاربة تجديدية لحقائق الشرع العالية، في سياقات تكامل أبعاد المقاومة للعزة
والكرامة، وتعزيز الجهود والقصود بالممكن المتاح والمنجز المستمر.
المُنطلق
في هذا شاهدُ الصيام في دعوات المقاطعة ومتعلقاتها اقتصاديا ورياضيا وثقافيا وفنيا
وأكاديميا وسياحيا. لاحَ في ذهني معنى مهم من معاني الصيام، وهو أنّه عبادة تَركية،
أي أنّ الصائم يَتْركُ طعامه وشرابه وشهواته كامل النهار، والقصد الأوحد في ذلك هو
امتثالُ أمر الله بالصيام لأجله سبحانه.
والذي
وقفتُ عنده بالتحديد عبارةٌ في كلام العلماء، هي: عبارة "التَّرْكيةِ"،
إنّ التعبير بعبارة "التَّرْكية" يُشيـر إلى العبادة الصامتة، التي يكون
فيها الإنسان مُمتنعا عن المُفطرات ومقاطعا لأي فعلٍ قد يُفسد الصوم أو يُقلِّل
فضله وأجره. ويُشير إلى أنّ هذا الامتناع يؤدى لوجه الله تعالى فقط وليس لحَظٍّ
عاجلٍ أو رَغبةِ سُمعةٍ أو جلبِ منفعةٍ.. فهنالك إذن محدّدان للعبادة التَركية:
الامتناع عن الفِعْل المُفطِـر، وأن يكون ذلك الامتناع لوجه الله تعالى. وعليه
أحسبُ أنّ الصيام ضربٌ من ضُروب الجهاد، وأنّ هذا الجهاد جهادٌ صامتٌ، يترك فيه
المُجاهد الصائم أفعالا تفسده وتـقـلّـل فضله وأجره.
المُنطلق في هذا شاهدُ الصيام في دعوات المقاطعة ومتعلقاتها اقتصاديا ورياضيا وثقافيا وفنيا وأكاديميا وسياحيا. لاحَ في ذهني معنى مهم من معاني الصيام، وهو أنّه عبادة تَركية، أي أنّ الصائم يَتْركُ طعامه وشرابه وشهواته كامل النهار، والقصد الأوحد في ذلك هو امتثالُ أمر الله بالصيام لأجله سبحانه
وليس
الصيام فقط الذي يُشير إلى العبادة التركية أو الصامتة، بل هنالك عبادات أخرى
صامتة يكون الأداء فيها غير ظاهر وغير مُعلَن، ويقتصر على القائم به في علاقة خاصة
محضة مع الله تعالى، لا يداخلها رياء ولا مقدماته كإظهار عمله الذي قد يؤدي به إلى
استحسان من يراه، فيُشكَـر على ذلك؛ ما يؤدي إلى غُروره وإعجابه بنفسه وإبطال عمله
بناء على ذلك.
أصالة
الامتناع الشرعي
لعل
عُموم العبادات الصامتة كما بدت لي بعد تأملاتٍ في حديث الصيام ونظائره التي لم
ينص عليها كما نُصّ على الصيام، يعودُ إلى أصل النّهي الشرعي الذي يأمر فيه الشارع
الكـفّ عن الفعل، والكفّ هو الامتناع والترك، وليس فيه ما يدل على الفعل والممارسة
كفعل الأمر الذي يُقْدم فيه الإنسان على حركة وقول وتصرّف، كفعل الصلاة التي فيها:
الذهاب إلى المسجد والقيام والركوع والسجود ونحوه.
وفي
الامتناع عن الداعمين للعدو تجاريا وفنيا وإعلاميا نواهٍ شرعـيّة كثيرة وردت في
أفعال معينة، كفعل إعانة العدو بالكلمة: "من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ
كلِمَةٍ جاءَ يومَ القيامةِ مَكتوبٌ بينَ عينيهِ: آيِسٌ مِن رحمةِ اللَّهِ" (سُنن
ابن ماجه)، "وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة:
2).. وإعانته بالصمت والسلبية واللامبالاة، "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن
مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة: 79)..
وإعانته بتصديقه وترويج أكاذيبه: "كَفى بالمَرْءِ كَذِبا أنْ يُحَدِّثَ
بكُلِّ ما سَمِعَ" (صحيح مسلم).. ونحوذ لك.
هل
المقاطعة من جنس العبادات الصامتة؟
العدو
اسم لمن يصدر منه العدوان، والعدوان محرّم على وجه القطع، ومنه العدوان على الأنفس
والأموال والمصالح الحيوية والكرامة والحقوق.. وحكم العدوان هو صدّه ومنعه، لحفظ
الحقوق وجلب المصالح ودرء المفاسد، والدليل قوله تعالى: "فَمَنِ اعْتَدَىٰ
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ" (البقرة:
194).
والمقاطعة
من وسائل الصدّ والمواجهة (المقاطعة للعدو ومتعلقاته)، والمقاطعة هي إضعاف العدو
من جهة ما يُدعم به مما هو موضع مقاطعة، فالعدو يُدعم بالمال والاقتصاد والإعلام
والسياسة والفنون.. فيكون مقاطعة ذلك الدعم إضعافا له وتقوية لمن يقاومه ويصد
عدوانه. والفعل المقاطع هو وسيلة لمقصد الإضعاف والتهرئة، وحكم الوسيلة حكمٌ
لمقصودها، و"ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، و"الوسائل لها
أحكام المقاصد"، والوسيلة هنا بشطرين: شطر إضعاف العدو، وشطر تقوية من
يقاومه.
كما
أن هذه المقاطعة هي مقاومة صامتة، وهي مقاومة ناعمة، ليست مقاومة عسكرية مثلا،
وليست مواجهة مباشرة مع العدو، وإنما هي مواجهة غير مباشرة وغير ظاهرة بل هي صامتة.
وفاعلية المقاطعة تظهر في آثارها الجسيمة على مستوى الجهات المقاطَعة كالشركات
والمؤسسات والمناسبات وغيرها.
المقاطعة
أوسع أنواع المقاومة، والمقاومة تسع أوسع الشرائح الاجتماعية وليس فيها مشاكل،
فالمُقاطِع يفعل المقاطعة وهو في أمن وأمان، لا يخاف من المناوئين للحقّ المرجفين
في المدينة المناصرين للعدو، على غرار من يتصدر مقاومة بلسانه أو باحتجاجه أو
بدعمه وإسناده بما يُظهره أمام الناس وأنه منحاز للحقّ ومناصر لأصحابه.
المقاطعة
من جنس النهي الشرعي هذا، فضلا عن أنّ المقاطعة هي من جنس الكف عن مساندة الظالمين
والسكوت عن ظلمهم وكذبهم وتنكيلهم، فهي بناء على هذا تدخل ضمن جنس النهي الشرعي
بنظر في الشرع فسيح وبرؤية كلية جامعة. فالأمر كما عرفه العلماء هو طلب الفعل،
كطلب إقامة الصلاة، والنهي هو طلب الكف عن الفعل المحرم، كطلب عدم الركون إلى
الظالمين: "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ"
(هود: 113).
المقاطعة من جنس النهي الشرعي هذا، فضلا عن أنّ المقاطعة هي من جنس الكف عن مساندة الظالمين والسكوت عن ظلمهم وكذبهم وتنكيلهم، فهي بناء على هذا تدخل ضمن جنس النهي الشرعي بنظر في الشرع فسيح وبرؤية كلية جامعة
كما
أن المقاطعة ضربٌ من ضُروب الاجتهاد بمفهومه الواسع وآفاقه الرحبة المجددة بتجدد
الزمان والحال، وهي من قبيل الجهاد الذي لا قتال فيه، وفي السُّنّة إشارة إلى نوع
الجهاد الذي لا قتال فيه، وهو حج النساء بلفتة مقاصدية بديعة تتعلق بمساواة الرجل
بالمرأة في الجهاد وفقا للمناسب والممكن والراجح والأولى، جريا على عامّة الشرع في
التنصيص الصريح في مجال العبادات الشعائرية وفي التلميح المليح في مجال العبادات
الاجتماعية والسياسية والحضارية، بما يُعرف بدلالة النص ومعقوله.
وهذا
الجهاد بالمقاطعة في سياق المقاومة هو جهاد صامت بممارسة تَركية، يَمتنع فيها
العابد المجاهد عن مقتنيات العدو وتقنياته ومتعلقاته وشبكاته، ويتجنّب فيها أذنابه
وأذياله وأراذله، من المنافقين والمرجفين والمطبّعين.
اللهم
عَلّمنا فقه التأويل وحسن التنزيل، في قضايا الصيام والقيام، ونوازل المدافعة
والمقاومة، وباعد بيننا وبين من يفرّقون بين الصلاة والزكاة، وبين التعبّد بشعائر
العبادة والتدين بمفاخر الحضارة وشهودها ونهوضها.. هكذا تبدو المقاطعة كمقاومة
وجهاد يرتبط بالأمة؛ كامل الأمة؛ كفعل حضاري شامل وفعال يقع في قلب العبادة
الصامتة التي تقوم على الترك والامتناع؛ فكان فعل المقاطعة والامتناع عن كل ما
يدعم العدو والشروع في العمل الذي يدعم المقاومة وفعل الجهاد والمواجهة للعدو
المحتل، وكل من عاونه وأعانه على احتلاله وغصبه وعدوانه؛ عبادة تَركية من الأمة
وامتناع فيها وهو أقل ما يفرض على الأمة وعموم الناس؛ "والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
twitter.com/Saif_abdelfatah