كتب

الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر.. قراءة في كتاب

احتدم الصراع التنافسي في القرن الماضي بين الدول الأوروبية الكبرى، وتحديداً بين فرنسا وبريطانيا، لتقطيع أوصال الامبراطورية العثمانية عبر الفتوحات الاستعمارية للوطن العربي..
لقد أظهر غزو نابليون لمصر واحتلالها الهوة التاريخية السحيقة وسعة الشقة، التي تفصل المجتمعات الأوروبية الحديثة عن المجتمع العربي الاسلامي، الذي يهيمن فيه النظام البطركي التقليدي القديم، والتبعية. فالمجتمعات الأوروبية تتسم بالحداثة الصناعية الغربية القائمة على فكرة التقدم، والمبنية على عقلنة التاريخ، وعقلنة الفكر الفلسفي، والفكر السياسي، والمعقولية في مجال العلم والدين، وإعادة صياغة العقل من خلال ارتباطه الصميمي بالثورات التكنولوجية المتلاحقة وبمجالات التفكير العلمي.

حيث أن هذه الحداثة الغربية مرتبطة أيضاً  بالتطور الكبير، الذي عرفته الثورة الصناعية مع انتقال أوروبا على الصعيد الاقتصادي من نمط إنتاج إقطاعي إلى نمط إنتاج رأسمالي، أصبح فيه الإنتاج الصناعي للسلع يتطلب فتح أسواق  جديدة، خصوصاً بعد انتقال الرأسمالية من مرحلة تراكم رأس المال الأولى (المركنتيلية) المتصلة بالتجارة البعيدة والنهب للمستعمرات القديمة إلى مرحلة الراسمالية التنافسية ما قبل الاحتكار، التي تتطلب التجارة، مع الإبقاء على النهب.

وبالمقابل، نجد  المجتمع العربي الاسلامي يعاني من التصدع في بُنْيَانِهِ، ومن أزمة بنيوية شاملة، بسبب  الانفلاقات الصُلْبِيَة، والانقسامات المجتمعية التقليدية، العمودية، والفئوية، والمحلية، والاقليمية، الحادة، التي كانت تفتت وتذرر الأمة، ومن وضع مجتمعي ايديولوجي وسياسي ما قبل القومية، سمته الرئيسية التأخر التاريخي، وسيطرة البني التقليدية، حيث أن هذا النظام الاجتماعي ـ السياسي التقليدي يجسد الانحطاط التاريخي بامتياز، فضلاً عن أنه لايمتلك المقومات اللازمة لكي يكون قادراً على الاداء، كنظام اجتماعي ـ سياسي في المجال السياسي الموحد، والاقتصاد المتكامل، والجهاز العسكري الفعال، أنه نظام اجتماعي تتحكم فيه آلية تنتج وتعيد إنتاج البني التقليدية الهجينة، والبني غير العقلانية في مختلف مجالات الحياة.

وفي حالة التخثر هذه للمجتمع العربي واجه الصدمة الكولونيالية القائمة على الحضارة الصناعية الغربية، وعلى الحداثة المرتبطة جدلياً  بالعقلانية الغربية، اللتين أصبحتا العماد الأساس للمركزية الأوروبية، التي تصبو إلى الهيمنة على الحضارات الأخرى، وحشد وإقحام الشعوب المتمايزة في أنماط عيشها، وثقافتها، وحضارتها المختلفة في بوتقة الاستعمار الغربي، باسم أيديولوجية حداثة المركزية الأوروبية هذه، ومستتبعاتها من فكرة التقدم والتنمية، باعتبارها السمة الجوهرية للعقلانية الغربية، "فتبدو كأنها كونية عالمية، أو قل" علمية" بما أنها تقنية، صالحة لكل زمان ومكان".

وعلى قاعدة الهيمنة هذه في اتجاه سيطرة الحضارة الصناعية الرأسمالية على الصعيد الكوني، احتدم الصراع التنافسي بين الدول الأوروبية الكبرى، وتحديداً بين فرنسا وبريطانيا، لتقطيع أوصال الامبراطورية العثمانية عبر الفتوحات الاستعمارية للوطن العربي، وما استتبعها  من مقتضيات  التوازن الأوروبي، وما استدعاها من تقلبات في التحالفات، حيث ان الصراع مقاصده تتمثل في المزاحمات الاقتصادية لتوسيع الممتلكات الكولونيالية بين الدول الأوروبية باسم الايديولوجيات الحديثة الكبرى المؤسسة على الليبريالية، والقومية، وعلى تسارع الإنجازات المادية والتقدم التقني، و"تأورب" العالم.

مصر صنعت لنفسها، قبل مجيء الفرنسيين، بعقود طويلة، طريقاً نحو التنمية الرأسمالية وأن الاحتلال هو الذي أعاق هذا التطور وأحدث إرباكاً للمجتمع المصري
وبالمقابل، كان فساد النظام الإقطاعي المستبد داخل السلطنة العثمانية، وانحطاطه، قد قاد إلى تدهور الزراعة، وإلى سيادة الفوضى الشاملة خلال العهود الأخيرة من حكم المماليك والامراء في مصر، وفي غيرها من الولايات المتحدة العثمانية، نتاج جشع الولاة وعبثهم. وهو الوضع الذي أدى إلى ضعف السلطنة العثمانية حيال تنمية الرأسمالية الأوروبية حيث كانت الدول الاستعمارية تطمح للسيطرة على قطاعات استخراج الخامات التي تمد الالة الصناعية الراسمالية بحاجاتها ،وذلك باقتطاع هذه الولايات من السلطنة العثمانية.

يقول الباحث مجدي فالح: "اختلف المؤرخون حول مدى ارتباط الحملة الفرنسية بالتحديث والنهوض في مصر، فبينما يرى فريق أنّ الحملة وليدة الثورة الفرنسية، التي نادت بإنسانية الإنسان ودعت إلى تحقيق العدالة والحرية والمساواة، قد دخلت مصر لتيقظ الوعي الداخلي بها، ومن ثمة فإنّ ظهور حركة تنويرية تحديثية في العالم العربي الإسلامي مدين للغرب وحده، دون البحث عن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، التي ولدت شروط الانتقال، يرى فريق آخر أن الحملة الفرنسية لم تكن بداية نهضة حقيقية، وأن مصر كانت تعيش ارهاصات تحديثية خلال القرن الثامن عشر، ولكنّها مرت بأزمة، في نهاية القرن التاسع عشر، وخلال هذه الأزمة دخل الفرنسيون، ومن هذا المنطلق يصبح التطور وارداً قبل الحملة وما حدث في عصر محمد علي باشا والاحتلال الفرنسي مجرد امتداد لجذور نهضة سابقة ولإرهاصات حداثة محلية ظهرت بوادرها قبل أن يأتي الغرب أصلاً(ص 61).

لحظة تحديثية أم غزوة استعمارية؟

هناك من يردُّ تجربة التحديث إلى المؤثر الخارجي، الذي مثلته فترة الاحتلال الفرنسي، وقد أجمع هؤلاء على أن ظهور حركة تنويرية في الشرق، وبعث الآداب العربية ومعاداة قطاع وظهور الوعي القومي والدعوة إلى الاستقلال السياسي وتبلور حركة الإصلاح الديني مدين للحملة الفرنسية، في حين ارتأى الفريق الثاني، أن مصر صنعت لنفسها، قبل مجيء الفرنسيين، بعقود طويلة، طريقاً نحو التنمية الرأسمالية وأن الاحتلال هو الذي أعاق هذا التطور وأحدث إرباكاً للمجتمع المصري، في ذات الاتجاه عدّت الحملة حدثاً عرضياً، ليس له بصمة واضحة ولا أثر دائم، باعتبار أن المجتمع المصري كان مآله التغيّر دون هذه الحملة العسكرية، وقد اعتبرت هذه الدراسات أنّ ما حدث في مصر، خلال الحملة الفرنسية، كان بمثابة "... الإجهاض لحركة تنويرية أخذت في التشكل خلال القرن الثامن عشر، وأنه لو تركت هذه الحركة لحالها لصنعت تغييراً فكرياً يتسم بالثبات على عكس ما حدث من تغيير مفروض من أعلى..." يبدو أن هذا الاختلاف الواسع، بين الدارسين، قد جاء نتيجة للتركيز على دراسة الدولة/ السلطة أو بالأحرى الجانب السياسي والعسكري الذي بدا طاغياً على عديد الدراسات، بشكل لم يجعل للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي لهذه الفترة سوى جزء محدود في التحليلات نظراً لاحتكار الطبقات المهيمنة لكتابة التاريخ، ومن ثمّة، بات من غير المعقول تماماً اختزال هذا الجانب السياسي، من أجل تصوير مشروع الاحتلال الفرنسي، على أنه مجرد مرحلة في تاريخ فاتح عظيم.

كثيراً ما كانت الكتابة عن الحملة الفرنسية نابولينية بشكل بالغ الحدّة، إذ يجري النظر إليها غالباً بوصفها مرحلة في مسيرة فاتح عظيم ومحرر كبير، ولا يجري النظر إلى الجوانب الشرقية للمسألة، ولذلك أكدت ليلى عنان أنّ أسطورة الدور هي أسطورة نابليون، الأمر الذي يجعل الحاجة ماسة إلى إخضاع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بهذه الفترة للفحص المجهري الدقيق، سعياً إلى إعادة تقويم آثار هذا الاحتلال، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية وتقديم فهم أعمق لحقيقة التفاعل الذي تمّ بين الجانبين، تربط عديد الأعمال التاريخية بين الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801)، وبداية تاريخ مصر الحديث والمعاصر وتتكرر في ذات السياق نظرية مفادها أن الحملة الفرنسية أخرجت مصر في قرون الركود العثماني والمملوكي إلى آفاق التحديث، حتى أصبحت هذه النظرية من المسلمات التاريخية والفكرية لدى العديد من الدارسين، وقد جعلت هذه الدراسات، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أوروبا كما في الشرق، من الحملة الفرنسية على مصر نقطة بداية الحداثة والتنوير في العالم العربي الإسلامي، وقد رفعت بعض الدراسات، التي حاولت الاشتغال على أطروحة حمل المدنية إلى الشرق والمهمة التنويرية للحملة الفرنسية على مصر، شعار "ذهب المدفع وبقيت المطبعة"، ينطلق أصحاب هذه الرؤية من فكرة استشراقية تدعو إلى تكريس المركزية الأوروبية والترويج لأسطورة ترافق التدخل الأجنبي مع حمل المدنية والتنوير للشرق.

وعلى الرغم من تطرق بعض هذه الأعمال إلى محاولات الإصلاح التي تمّت، خلال القرن الثامن عشر، ورصدها للعلاقة مع الغرب، قبل الحملة، من خلال المدارس أو الإرساليات أو المطابع وغيرها فإنها تصر على التأكيد على وقع الصدمة العسكرية والحضارية التي أحدثتها حملة بونبارت، إذ تطلق هذه الدراسات على ما أحدثته الحملة الفرنسية في الوعي العربي تعبير "صدمة الحداثة" التي أفاقت الإنسان العربي من سباته إثر اصطدامه بحضارة عالم جديد، لا تمت بصلة إلى مفاهيمه عن الكون والحياة فقوّضت نرجسيته وجعلته يراجع مفاهيمه عن الكون ويدرك فواته التاريخي وتأخره الحضاري.

الملاحظ أن هذه الأعمال وغيرها لم تكتف بحملة نابليون كسنة مفصلية يؤرخ بها لميلاد النهضة العربية الحديثة، ولكنها حددت نهايات هذه النهضة بسنوات تبدو في أغلبها مرتبطة بأحداث غربية لا علاقة لها بالعالم العربي الإسلامي فعصر النهضة ينتهي عند حليم بركات، وعلي المحافظة سنة 1914، أي ببداية الحرب العالمية الأولى، وعند ألبرت حوراني سنة 1939، أي ببداية الحرب العالمية الثانية، أما محمد جابر الأنصاري فيختار سنة 1930، لنهاية عصر النهضة العربية التي ترتبط بأزمة الثلاثينيات الاقتصادية التي شهدها الغرب، وعلى الرغم من انعكاس هذه الأحداث على العالم العربي الإسلامي بتأثيرات مختلفة، فإنها تبقى أحداثاً ذات دلالات متعددة أبرزها أنها أحداث صنعها الآخر الحضاري في الأساس، ووضعها بوصفها علامات فارقة في التاريخ الفكري العربي الإسلامي الحديث، وهو ما يمثل تبعية ثقافية شبه مطلقة للغرب، ومن ثمة فإن التأكيد عليها وتكرارها ووضعها كمحطات أساسية وفارقة في النظام الثقافي العربي، يضخم من ظاهرة "جلد الذات"، وهو ما جعل عبد الوهاب المسيري يذهب إلى الإقرار بأنه ثمة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد.

لقد ربطت هذه الدراسات بين الحملة الفرنسية والنهضة العربية عامة والمصرية خاصة بحجة أن الحملة الفرنسية أخرجت مصر من عصور الركود العثماني والمملوكي إلى تحول هذه الفترة إلى أهم الفترات المبحوثة مما أفرز حالة من التأزم العقلي تجاه الآخر وحالة مماثلة من التأزم العقلي بين المثقفين بعضهم البعض.

يقول الباحث مجدي فارح: "طرحت إشكالية اقتران التأريخ للنهضة العربية الحدود من عدمه بالحملة الفرنسية على مصر، عدة إشكاليات وظواهر وعيوب داخل الخطاب العربي الحديث والمعاصر، أول هذه الظواهر مسألة التخوين والتكفير في الخطاب العربي المعاصر والتي تنطلق من الرؤية الإسلامية/ العلمانية الانشطارية، فصعد جلال كشك يصف لويس عوض الذي اعتبر أن بونبارت "فر رجل الأقدار الذي يقع على يديه ذلك التغير العظيم في تاريخ مصر" بأنه عميل المدرسة الاستعمارية في تفسير التاريخ، كما يصف مصطفى عبد الغني وجهة النظر المؤيدة للعملة الفرنسية بالتبعية الأيديولوجية للنزعة الاستشراقية، وفي عبارات واصطلاحات تدخل في قاموس الصور الذهنية، المتبادلة، بين الإسلاميين والعلمانيين وتمتلئ بها كتبهم معبرة عن النفي الفكري للآخر، من خلال الاشتغال الوظيفي على المعتقدات الدينية والانتماء الوطنية.

اعتبرت عدة دراسات، أن حملة نابليون فاتحة لاتصال ثقافي مستمر بين مصر وأوروبا وعاملاً فاصلاً في تكون الأفكار السياسية والاجتماعية في مصر خاصة والعالم العربي الإسلامي عامة، وقد عبّر لويس عوض عن الارتباط الحضاري بالغرب لجيل من الليبراليين العرب، الذين انخرطوا بعد هزيمة 1967، في البحث في أسباب الهزيمة واعتبروا أنّ حملة 1798، هي نقطة بداية الحداثة أما الفترة العثمانية فهي بمنزلة العصورالوسطى، مطبقين النموذج الأوروبي في قراءة التاريخ المصري.

اقرأ أيضا: إخفاق التحديث الكولونيالي في العالم العربي.. كتاب عن الحملة الفرنسية على مصر