يجب أن نعجب، ثم نسأل: كيف يمشي جنباً إلى
جنب ما يجري من مجزرة متواصلة، على مدار الساعة، وطوال ما يقرب الأشهر الخمسة، وقد
تعدّى القتلى الشهداء والجرحى، ومن ما زالوا تحت الردم، أكثر من مائة ألف، والحبل
على الجرار.. هذا قبل فتح جبهة رفح.. كيف يمكن أن يجمع بين جرائم الإبادة، وتدمير
الأحياء السكنية في غزة، والمناداة بحلّ الدولتين بعد أن تضع "الحرب"
أوزارها.
طبعاً لا يتماشيان، لأن حلّ الدولتين،
بالرغم مما فيه من غبن للحق
الفلسطيني، مقابل الباطل الصهيوني: "دولة إسرائيل
غير الشرعية"، يتطلب درجة من السلم والتعاون وحسن الجيرة. فلا مرتكب تلك
الجرائم يمكن أن يتعايش مع هذه الجرائم، ولا ضحايا تلك الجرائم يمكن أن يركنوا في
قبورهم الجماعية، بأعين راضية، حتى، وهي أعين شهداء "أحياء عند ربهم يرزقون".
ثم ماذا نقول لأهلهم من الفلسطينيين وأمتهم
من عرب ومسلمين: كيف يمكن التعايش مع حلّ الدولتين؟
ويجب التذكر هنا أن المنادين
بهذا الحلّ يريدونه إنهاءً للصراع، وطريقاً للتعايش والسلام وحسن الجيرة. هذا يعني
أن طرح حلّ الدولتين الفاشل، أصبح مثقلاً بجريمة الإبادة.
هذا الذي حدث مع القتل الجماعي، وبالجملة،
وبمجزرة متواصلة نحو خمسة أشهر (والمجازر عادة تدوم يوماً أو يومين أو أسبوعاً)
بما أضاف سبباً آخر، أشدّ على أنفس المدعوين لحلّ الدولتين، خصوصاً على مستوى
الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية.
أما البُعد "الفريد" في هذه
المجزرة المتواصلة كونها تمت، بالصورة والصوت، وعلى مشهد من العالم كله. وهو ما
يجعلها تختلف عن أيّة مجزرة مهما كان هولها، لم ترها عين العالم، وإنما نقلت حدثاً
تاريخياً، جريمة موصوفة. ولكنها في أغلبها كانت قابلة للطعن، أو للتشكيك، في الحجم
والأرقام، وأخضعت لتهمة الأغراض السياسية
والتسييس.
إذا كان الموقف المبدئي والثابت لدولة الكيان الصهيوني هو رفض حلّ الدولتين، فلماذا الإصرار على هذا القرار إذا كان دعاته جادّين في اعتباره الحلّ للقضية الفلسطينية؟
فالمجزرة الفلسطينية في غزة، والتي بدأت،
ولنقل منذ العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. واستمرت حتى اليوم، وما زالت تحت
الصورة وصوت الصحافيين. ومن ثم لا يستطيع أحد أن ينكرها، أو أن يسوّغها. بل إن
القادة الصهاينة الذين ارتكبوها أعلنوها سياسة واستراتيجية. ولم يقبلوا النصيحة
للتخفيف منها، بالرغم من محاولات قادة غربيين، من أصدقائهم وداعميهم والحريصين
عليهم أكثر من حرصهم على أنفسهم، وفي مقدمهم الإدارة الأمريكية قد رجتهم ليخففوا،
وهي تغطيهم. وتقول لهم بأنها تتفهمهم. ولكن العواقب وخيمة. وقد ظهرت منذ الآن.
أما الذي يزيد في "التعجب" من
موقف دعاة حلّ الدولتين أن القادة الصهاينة، وليس الحكومة الراهنة فحسب، وإنما،
أيضاً، من سبقوهم، ابتداءً ببن غوريون وغولدا مائير، لم يعترفوا، ولو من حيث
المبدأ بحلّ الدولتين. وقد دأبوا منذ تأسيس دولة الكيان في العام 1948، على رفض
الاعتراف بقرار 181 لعام 1947. وقد اقتضى إقامة دولتين، وحدّد حدودهما بخرائط
معترفاً بها دولياً. ولكن قادة الكيان منذ بن غوريون الذي استند إلى قرار التقسيم،
باعتباره أعطى الحق بإقامة دولة يهودية (قرار 181). ولكنه لم يعلن الاعتراف
بالقرار، لأن ذلك يعني الاعتراف بحلّ الدولتين.
وتكرّر الأمر عندما تقدمت دولة الكيان بطلب
العضوية في هيئة الأمم المتحدة، حيث اشترط عليها لقبول عضويتها، أن تعود إلى حدود
قرار التقسيم 181 (كانت قد احتلت في حرب 1948 مساحة 24% زيادة عليه)، وإعادة
اللاجئين (ثلثا الشعب الفلسطيني عام 1949) الذين اقتلعوا بالقوّة من بيوتهم
وديارهم وأراضيهم. فوعد المندوب الصهيوني باسم حكومته بتنفيذ الشرطين. فقبلت
العضوية دون تنفيذ الشرطين. طبعاً ما زال الشرطان ملزمين حتى اليوم.
إن اعتراف هيئة الأمم بعضوية دولة الكيان
الصهيوني يعتبر باطلاً، ولاغياً، بسبب عدم تنفيذ الشرطين، وقد عبّر عنهما قرار 194
لعام 1948.
إذا كان الموقف المبدئي والثابت لدولة
الكيان الصهيوني هو رفض حلّ الدولتين، فلماذا الإصرار على هذا القرار إذا كان
دعاته جادّين في اعتباره الحلّ للقضية الفلسطينية؟
لم تعرف فلسطين طوال 75 عاماً من قيام دولة الكيان الصهيوني، غير الحروب وحالة هدن، ومناوشات واعتداءات. ولم تعرف السلام والتعايش. وحتى اتفاق أوسلو كان حالة احتلال ومقاومات، وصولا إلى طوفان الأقصى. والمستقبل لن يكون إلاّ كذلك مع تغيّر في ميزان القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني، ومع مسار لتحرير فلسطين.
وإذا عدنا إلى تجربة السنوات الماضية كلها،
وهي التي طرح فيها أصحاب حلّ الدولتين هذا الحلّ الذي لم يطبّق، والذي هو غير ممكن
التطبيق. وذلك ما دام تطبيقه مشروطاً بموافقة الكيان الصهيوني الذي امتنع حتى عن
التفاوض حوله بعد اتفاق أوسلو 1993، والذي قدّم له المفاوض الفلسطيني في أوسلو
وبعدها، وحتى اليوم، كل ما يمكن أن يضعه من شروط على الدولة الفلسطينية المقترحة،
خصوصاً، في ما يتعلق بالأمن والتنازل عن حق العودة، والقبول حتى بعدد من
المستوطنات التي التهمت القدس والضفة الغربية بعد اتفاق أوسلو.
أما تفسير هذا الموقف الصهيوني الرسمي، فله
بُعدان: الأول أن أمريكا وأوروبا لم تحاولا إجبار الكيان الصهيوني على قبوله. فلو
كانتا جادتين في طرح حلّ الدولتين، لنفذ. والثاني أن جوهر المشروع الصهيوني،
بالرغم من المناورات السياسية التاريخية لإخفائه، وعدم إظهاره، هو السيطرة على كل
فلسطين واعتبارها ملكاً لهم، وتهجير كل الشعب الفلسطيني، لإعلان "دولة
إسرائيل" دولة الوطن القومي ليهود العالم كافة.
هذان السببان هما اللذان يفسّران ما عرفته
فلسطين والبلدان العربية والاسلامية، من حروب وصراعات منذ ما بعد الحربين
العالميتين الأولى والثانية. وهما اللذان يفسّران بقاء حلّ الدولتين، ليكون مخدراً
بإمكان التوصل إلى حلّ. ولبقاء دولاب الحروب والصراعات مستمراً، فلسطينياً وعربياً
وإسلامياً في المستقبل، كما في الماضي، فيما يمضي الكيان الصهيوني يبتلع، ويهوّد،
قطعة قطعة.
وذلك لأن حلّ ترحيل كل الفلسطينيين،
والاستيلاء الكامل على كل فلسطين، غير قابلين للتحقق إلاّ بقدر ما وصله الكيان حتى
الآن. بل أن تحققه يدخل في المحال، فيما الحلّ الوحيد العادل والممكن، كما التجربة
التاريخية في حروب الفرنجة (يسميها الغرب الحرب الصليبية) كما حرب المغول: هو
تحرير فلسطين كل فلسطين، ورحيل المستوطنين إلى عواصم الغرب التي جاؤوا منها، وقد
أحبتهم وأحبوها. وسيكونون مواطنين أصحاب نفوذ، وليسوا لاجئين.
لم تعرف فلسطين طوال 75 عاماً من قيام دولة
الكيان الصهيوني، غير الحروب وحالة هدن، ومناوشات واعتداءات. ولم تعرف السلام
والتعايش. وحتى اتفاق أوسلو كان حالة
احتلال ومقاومات، وصولا إلى طوفان الأقصى.
والمستقبل لن يكون إلاّ كذلك مع تغيّر في ميزان القوى في غير مصلحة الكيان
الصهيوني، ومع مسار لتحرير فلسطين.
أما البحث عن تسوية أو اتفاق سلام فأضغاث
أحلام وإضاعة للوقت.
وبالمناسبة، هذه القراءة لقصة حلّ الدولتين
لا تخفى على أمريكا أولا، وبريطانيا ثانيا، بصورة خاصة .
وهنا يبرز السؤال لماذا الإصرار على حلّ
الدولتين، وكل من أمريكا وبريطانيا تعلمان أن لا حلّ لدولتين. وهي قصة معادة على
مدى 75 عاما؟
السبب: يتوجب بقاء "أمل" بإمكان
الحل. وذلك تجنباً لتاكيد حقيقة أن لا حلّ. مما يبعث على تعزيز خيار المقاومة
للكيان الصهيوني، والقطيعة والعداء لامريكا وبريطانيا والغرب.
فالتعلق بوهم "الأمل" الكاذب تضليل
وتخدير يخدمان المشروع الصهيوني.