على مدار الأيام الماضية، نشرت مؤسسة سيناء
لحقوق الإنسان ثلاثة تقارير مصحوبة بمقاطع فيديو وصور من
المنطقة العازلة في شمال
سيناء على بعد كيلومترات قليلة من الحدود
المصرية مع قطاع غزة والأراضي المحتلة.
بدأت الحكاية يوم الرابع من فبراير عندما
حرك الجيش المصري مصحوبا بمهندسين تابعين لشركات هندسية تعاقدت معها شركة أبناء
سيناء المملوكة لرئيس اتحاد قبائل سيناء إبراهيم العرجاني، لوادر وعربات للبدء في
عمليات تجريف وانشاءات في مساحة 13 كيلو متر داخل المنطقة العازلة وذلك بوتيرة
متسارعة على غير العادة ، كما رصدت الصور إنشاء سور ضخم بارتفاع 7 أمتار.
بعدها بيوم واحد نشرت عدة مواقع غربية مثل
وول ستريت جورنال، نيويورك تايمز، واشنطن بوست، الجارديان، ووكالتي روتيرز
وأسوشيتيد برس، تقارير مصحوبة بصور للأقمار الصناعية كلها تؤكد ما ذهبت له مؤسسة
سيناء وكان الجميع يبحث عن إجابة سؤال واحد، هل تستعد مصر لاستقبال النازحين
الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء بعد بدء إسرائيل العملية العسكرية في رفح
الفلسطينية؟
النظام المصري لم ينتظر طويلا وجاء رده
سريعا، ليس مرة واحدة بل أربع مرات بأربع روايات رسمية مختلفة وعليك أن تختار ما
شئت منها.
النظام المصري يمتلك من أوراق القوة ما يمكنه من وقف الحرب الإسرائيلية بأكملها على قطاع غزة ومنع مخطط التهجير نهائيا ولكنه اختار سياسة التصريحات والبيانات التي لا تعبأ بها إسرائيل ولن توقف أبدا تدفق الفلسطينيين إلى كانتونات المنطقة العازلة في شمال سيناء.
الرواية الأولى جاءت على لسان اللواء محمد
شوشة محافظ شمال سيناء يوم 15 فبراير الجاري عندما تحدث لموقع العربية السعودي
قائلا أنه لا يوجد أي نية لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء وأن الأعمال الجارية في
المنطقة العازلة ما هي إلا لجان من المحافظة تقوم بحصر أعداد المنازل التي هدمت في
هذه المنطقة أثناء الحرب على الإرهاب للنظر في كم التعويضات المناسبة التي ستعطيها
الدولة لاهالي سيناء المهجرين من منازلهم منذ سنوات.
المشكلة في هذه الرواية أن أهالي رفح والشيخ
زويد يتظاهرون بالفعل منذ أشهر للمطالبة بعودتهم إلى منازلهم وأرضهم مرة أخرى وهو
ما ترفضه السلطات المصرية بل وتتعامل معه بقبضة أمنية قوية وتعتقل أبرز رموز
القبائل السيناوية المطالبين بحق العودة ، فلماذا تقرر السلطات المصرية فجأة ودون
سابق إنذار إعادتهم بل وتعويضهم أيضا؟
الرواية الثانية جاءت على لسان السيد ضياء
رشوان رئيس الهيئة الوطنية للاستعلامات والذي قال في مداخلتين هاتفيتين أنه لا نية
لمصر لاستقبال الفلسطينيين وأن المنطقة العازلة موجودة منذ سنوات ولا جديد يذكر
بشانها فلماذا تقيم مصر منطقة عازلة جديدة.
الغريب أن السيد رشوان نفى شيئا لم تذكره
مؤسسة سيناء ولم تذكره تقارير الصحافة الغربية ، فلم يدعي أحدا أن مصر تقيم منطقة
عازلة جديدة ولم ينفي أحد وجود منطقة عازلة بالأساس وإنما كان الحديث عن الإنشاءات
الغريبة التي ظهرت فجأة في هذه المنطقة بالتزامن مع العملية العسكرية الاسرائيلية
في رفح الفلسطينية.
الرواية الثالثة جاءت على لسان نفس اللواء
محمد شوشة محافظ شمال سيناء يوم 17 فبراير عندما قال في تصريحات نقلها موقع
العربية السعودي أيضا أن الجيش المصري ينشيء منطقة لوجيستية في هذا المكان لتنظيم
انتظار شاحنات المساعدات وتوفير أماكن مبيت مريحة لسائقي هذه الشاحنات الذين
ينتظرون منذ أشهر.
اللواء شوشة هنا ناقض روايته الأولى وكذبها
ونفاها وشكك في مصداقيته كمصدر رسمي عندما صرح بروايتيين في يومين مختلفين عن نفس
الموقع ، ولكن السؤال لماذا ينشيء الجيش منطقة لوجيسيتية بعد أربعة أشهر من انتظار
هذه الشاحنات امام معبر رفح، وما الذي تغير الآن.
الأكثر من ذلك أن الجيش قد رفع لافتة هزيلة
أمام تلك المنطقة مكتوب عليها منطقة لوجيستية وسارعت وسائل الإعلام المصرية
المقربة من النظام بإذاعة هذه اللقطات على الفور لتأكيد الخبر ونفي أي حديث او
تخمين عن استعداد مصر لاستقبال الفلسطينيين.
الرواية الرابعة جاءت على لسان سامح شكري
وزير الخارجية المصري على هامش مشاركته في مؤتمر مينويخ الدولي للأمن حيث قال أنه
لا نية لمصر في استقبال الفلسطينيين ولا يمكن السماح بتهجير الشعب الفلسطيني من
قطاع غزة وأضاف أن ما يجري في المنطقة الحدودية العازلة ما هي إلا أعمال صيانة.
الحقيقية أنا لا أدري أي أعمال صيانة تلك
التي تحتاجها رمال الصحراء في المنطقة العازلة، ولماذا ينشيء الجيش جدارا بارتفاع
7 متر إذا كان الهدف هو صيانة الحدود وهل هي منطقة لوجيستية أم حصر لمنازل
المهجرين أم صيانة لشيء لا نعرفه على الحدود المصرية؟
الروايات المصرية المتضاربة كلها تثبت ما
ذهبت إليه مؤسسة سيناء الحقوقية وتقارير الصحافة الغربية أن مصر تستعد لاستقبال
الفلسطينيين في المنطقة العازلة في مكان أشبه بالكانتونات.
فما هي هذه "الكانتونات"؟
الكانتونات هي مساحة محكومة أمنيًّا
وعسكريًّا وخاضعة لإجراءات مشددة و يمكن تصورها كسجن لمجموعة من الناس في الهواء
الطلق و تعتبر محكومةً ذاتيًّا من قبَل سكانها تحت سلطة إقليمية أكبر.
تعتمد هذه الكانتونات على قنوات اتصال خارجي
للحصول على المساعدات و ليس لديها ما يكفي من الموارد للاعتماد على نفسها للمعيشة
حيث تقام كمخططات بديلة توفر سيطرة أمنية وتخضع لحصار صارم من السلطات الإقليمية
الأعلى.
تعتبر الكانتونات طريقة سهلة للتخلص من
مجموعات عرقية بشكل غير مباشر حيث طبها الاحتلال الإسرائيلي مع بعض أهالي الضفة
الغربية المحاصرين وسط المستوطنات، كما عانى النازحون السورييون من بقائهم داخل
هذه الكانتونات التي تتبع قوى عرقية مختلفة
تاريخيا كانت هناك "ثورة
الكانتونات" في إسبانيا، ونظام الكانتون بسويسرا ، كما طبقها نظام الفصل
العنصري في جنوب إفريقيا لتشتيت السكان وإضعافهم بشكل مستمر.
الكانتونات هي مساحة محكومة أمنيًّا وعسكريًّا وخاضعة لإجراءات مشددة و يمكن تصورها كسجن لمجموعة من الناس في الهواء الطلق و تعتبر محكومةً ذاتيًّا من قبَل سكانها تحت سلطة إقليمية أكبر.
إذا ما اعتمدت مصر نفس السياسة ووضعت
الفلسطينيين داخل هذه الكانتونات فهذا يطرح مجموعة من الأسئلة الهامة ، على سبيل
المثال من سيكون المسؤول عنهم أهي القوات المسلحة المصرية أم ميليشيات اتحاد قبائل
سيناء ورئيسها إبراهيم العرجاني.
متى سيعود هؤلاء الفلسطينيون إلى أرضهم مرة
أخرى، ومن يقرر كيف ومتى وإلى أين سيعودون، أهو النظام المصري أم إسرائيل؟
النظام المصري يمتلك من أوراق القوة ما
يمكنه من وقف الحرب الإسرائيلية بأكملها على قطاع غزة ومنع مخطط التهجير نهائيا
ولكنه اختار سياسة التصريحات والبيانات التي لا تعبأ بها إسرائيل ولن توقف أبدا
تدفق الفلسطينيين إلى كانتونات المنطقة العازلة في شمال سيناء.