الولايات المتحدة عند مصالحها، مستعدة لالتهام أقرب حلفائها، هكذا قالت تجربة التاريخ، فالدولة الرأسمالية تحسب كل شيء بميزان الربح والخسارة، لا تعرف ماذا تعني تلك المصطلحات التي تتعلق بالشرف والكرامة والكبرياء، هكذا يكتب المعلقون على كتاب «العملاق»، الذي حاول فك الشيفرة النفسية والثقافية والسياسية لأكبر إمبراطورية نشأت من مجموعة من المهاجرين، والمثير أن من كانوا بُنَاتها هم من اللصوص البريطانيين، الذين تم إرسالهم إلى الأرض الموعودة أمثال فورد وروكفلر.
حدث ذلك على امتداد التاريخ الطويل، كيف انسحبت من أفغانستان وكيف أُذلّت في فيتنام وكيف أمرت
نتنياهو بالتزام الصمت عندما وقعت الاتفاق النووي مع إيران، هكذا هي الولايات المتحدة، والآن تقف في لحظة من لحظات التاريخ الصعبة والمهددة بحرب واسعة في عامها الانتخابي الأخير، ولديها حرب في أوكرانيا، أما الصين فتزحف من تحت غبار النار المشتعلة في أوروبا والشرق الأوسط، وتتلقى قوات أمريكا في المنطقة ضربات وترسل طائراتها للرد، ما يعني أن المنطقة على حافة الخطر.
في المنطقة، قادت سياسة نتنياهو العابثة في الصراع مع الفلسطينيين لكل هذا الخطر والدمار. صحيح أن الولايات المتحدة هي المتهمة الأولى بكل ما يحدث لسوء إدارتها بملفات تملك كل صلاحيات فكفكتها، ولكن نتنياهو المحتال أدى دورا كبيرا في إفشال مخططاتها، فالرئيس الأسبق بيل كلنتون يقول؛ «إن نتنياهو قتل عملية السلام».
صراعات الإدارات الديمقراطية مع نتنياهو وجدت نفسها في مذكرات كلنتون وباراك أوباما وجون كيري، الذي كتب أن «نتنياهو أظهر قلة احترام»، وبات واضحاً أن الرئيس
بايدن الذي يمتد إرثه منذ أوباما يكره نتنياهو، وقد أحدث زلزال الحرب على غزة ارتدادات سياسية طالت تفكيره بتصور المنطقة، وهو الرئيس الذي سُئل عندما تم انتخابه عن حل الصراع، فقال؛ إن هذا ليس وقته، مركزا على حلول اقتصادية تتساوق مع برنامج نتنياهو بالسلام الاقتصادي، وكل همه الحيلولة دون انفجار الضفة الغربية، ليكلف موظفا صغيرا في الخارجية الأمريكية بمتابعة الملف.
هذه الحرب وضعت بايدن ونتنياهو وجها لوجه. بايدن يمول ويشحن السلاح ويغطي في مجلس الأمن، ونتنياهو وحكومته يتمردان على الممول، رغم تغير موازين القوة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر في صالح واشنطن، حين ظهرت إسرائيل دولة هشة مذعورة، تحتاج الحماية الأمريكية كي تستمر، وهذا ما قالته الخارجية الأمريكية؛ بأن «إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها»، فكيف يستوي هذا مع التمرد الإسرائيلي؟
النار المشتعلة في غزة أحرقت أوراق السياسة القديمة بالحلول الترقيعية، التي كان نتنياهو يجلس وسطها محركا وفاعلا وعابثا ومعاندا ومغامرا، ليحرق المنطقة ويحرق معه واشنطن، وكأن الولايات المتحدة أو الديمقراطيين الذين سئموا من ألاعيبه وصلوا إلى مرحلة اللاعودة في شطب رئيس الوزراء المغامر، سواء لرغبة بالحديث عن السياسة ما بعد الحرب التي يقف معاندا لها، أو لجهة استمرار تطاوله على الإدارة الأمريكية واحتقارها.
بلغت ذروة الغضب الأمريكي من رجل تكرهه بشدة في العشرين من الشهر الماضي، عندما نشر نتنياهو بيانا يكذّب فيه الرئيس الأمريكي، بعد المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما، حيث أعلن بايدن أنه لم ير معارضة من قبل نتنياهو للدولة الفلسطينية. هنا أضيئت الأضواء الحمر في واشنطن، وربما انطلقت صافرة إنذار شطب نتنياهو. قد يقول قائل؛ إن الإدارات الديمقراطية لديها إرث مع نتنياهو، فلماذا لم تقم بذلك سابقا؟ لأن الأمر مختلف. أولا؛ إن نتنياهو يتعثر في حربه وهو في ذروة ضعفه في الداخل، وثانياً؛ إن استطلاعات الرأي في إسرائيل تجهز نتنياهو للشطب.
ما سر الاندفاع الأمريكي بإرسال مسؤول مخابراتها وليام بيرنز على عجل إلى باريس، ليلتقي نظراءه الفاعلين في ملف الوساطة لصياغة مقترح صفقة تبادل؟ واضح أن اللغة السياسية التي تتحدث بها إدارة بايدن ستصاب بانتكاسة في ظل وجود نتنياهو، وبات واضحا أن الإدارة الأمريكية أصبحت بحاجة ملحة لحديث سياسي قبل الانتخابات، ومن ثم عليها إسقاط نتنياهو قبل ذلك.
وقد تكون
صفقة التبادل المقترحة هي الوسيلة التي سقطت في أيدي إدارة بايدن لإسقاط نتنياهو؛ لأنها تضع ظهره للحائط، فإن وافق عليها سيخسر تلة اليمين التي يتكئ عليها، حيث يغادر سموتريتش وبن غفير الحكومة. صحيح أن لابيد يعرض شبكة أمان، لكن الجميع يعرف أنه سيتم سحبها لحظة انتهاء الصفقة وسيسقط نتنياهو.
أما في حال رفض الصفقة، فهذا يعني انسحاب غاتنس وتعرية نتنياهو كسياسي ذاتي يضحي بالأسرى من أجل كرسيّه، ليخرج الشارع الإسرائيلي في تظاهرات تنتهي بإسقاط نتنياهو بشكل مهين ومذل على كل الجهات. يمكن تسميتها صفقة إعدام نتنياهو وإنهاء حياته السياسية، وهو رجل محتال يراهن على رفض «حماس» كمخرجه الوحيد وخشبة خلاصه.
هل باتت واشنطن تفكر بعد زلزال المنطقة بإعادة ترتيب الأشياء، أو بصفقة كبرى تترك خلالها المنطقة دون عُقد ترغمها على العودة المكلفة؟ بين الرياض وطهران وتل أبيب وفلسطين وبيروت والسياسة والدولة والتطبيع؟ في كل ذلك، بات نتنياهو عبئا وحجر عثرة، إلا إذا سار حيث تريد، حيث فرصة دخوله التاريخ كأحد صانعيه كما قيل أمريكيّا، وضعه أمام خيارين: إما الخروج المذل أو الدخول به.
(الأيام الفلسطينية)