مسيّرات
ومدمرات وبوارج تتطاير وتناور في محيط باب المندب، على نحوٍ يعكس مشهدا ملتهبا
يزداد استعارا بتداول حديث يُشير إلى اتجاه واشنطن نحو تأسيس تحالف لحماية الأمن
في البحر الأحمر. وفي ضوء ذلك يصبح التساؤل المطروح: ما هي طبيعة التعقيد الجغرافي
والتهديدات العسكرية المتبادلة في محيط مضيق باب المندب؟
نفوذ
القوى الكبرى والإقليمية
السيطرة
أو كسب نفوذ داخل أو على مقربة من أي مضيق دولي يُقيّم كنقطة قوة أو تهديد ترفع من
القدرات السلوكية "المناورة" لأي دولة، وبالتالي الظفر بموقعٍ هرميٍ داخل
المعادلة الدولية يفرض نقطة تأثير ملموسة.
جيبوتي
الواقعة على الضفة المقابلة لليمن هي عش قواعد عسكرية لأكثر من دولة، وأبرز هذه
القواعد تلك الأمريكية المعروفة باسم "معسكر ليمونير". يعسكر في هذه
القاعدة ألفا جندي أمريكي، وهي قاعدة جوية وبحرية كاملة التجهيزات. إلى جانب هذه
القوة، ينتشر عدد من الجنود الأمريكيين في قاعدة بلدوكلي الواقعة في إقليم شبيلي
السفلى جنوب الصومال، فضلا عن انتشار فرقاطات ومسيّرات جوية وأخرى بحرية يتم
تحريكها من قبل القاعدة البحرية الأمريكية في البحرين.
السيطرة أو كسب نفوذ داخل أو على مقربة من أي مضيق دولي يُقيّم كنقطة قوة أو تهديد ترفع من القدرات السلوكية "المناورة" لأي دولة، وبالتالي الظفر بموقعٍ هرميٍ داخل المعادلة الدولية يفرض نقطة تأثير ملموسة
لا
تحبذ واشنطن العمل وحدها في محيط باب المندب، بل تتبنى استراتيجية التحالف
التشاركي القائمة على تقاسم التكاليف البشرية والعسكرية والاستخبارية مع قوات
حليفة. العمليات الأمريكية في أفريقيا كلها -عدا مصر- يتم إدارتها من قبل القيادة
العسكرية الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" ومقرها شتوتغارت في ألمانيا، وموقع
القاعدة بحد ذاته تشارك أمريكي-أوروبي في إدارة العملية. إضافة إلى ذلك، هناك قوات
فرنسية وبريطانية جوية وبحرية وبرية تشارك القوات الأمريكية النشاط في معسكر
ليمونير. ولا يقف الأمر عند ذلك، بل ثمة قواعد فرنسية جوية وبحرية مستقلة تنتشر في
أكثر من نقطة في جيبوتي. ويتوثق التحالف التشاركي للحلف الغربي في حوض البحر
الأحمر بوجود قواعد عسكرية إسبانية وإيطالية ويابانية، وإن كانت اليابان آسيوية
إلا أنها ضمن الحلف الغربي.
بعد
عام 2011 وضعت الإمارات العربية المتحدة هدف تحقيق
انتشار يؤسس لها عمقا استراتيجيا في زيادة نفوذها في موانئ الشرق الأوسط وأفريقيا
على نحوٍ يُكسبها أفضلية في حركة التجارة الدولية، وفي ذات الوقت تترتب عليه أهمية
في دورها الوظيفي بالنسبة للدول الكُبرى النافذة في الشرق الأوسط وأفريقيا. وبذلك
استولت الإمارات على عدة موانئ لدول مشاطئة للبحر الأحمر بالإجبار أو بأسلوب ناعم،
وأنشأت قواعد عسكرية منها في صوماليلاند؛ وهو إقليم صومالي انفصالي غير معترف به،
وجنوب اليمن وتحديدا جزيرتي سُقطرى وميون، وصولا لافتتاح قاعدة في إريتريا.
قواعد
عسكرية متناثرة ملء السمع والبصر تُفضي إلى شبكة معقدة في محيط البحر الأحمر، ولا تغيب
عن البال قواعد الاحتلال الإسرائيلي بوجود قاعدتين سريتين في سُقطرى لم تعترض
الحكومة اليمنية على افتتاحهما بشكل غير شرعي، عوضا عن قاعدة دهلك في إريتريا.
في
الطرف المقابل، تربض الصين بقاعدة بحرية متاخمة لميناء دوراليه الذي كانت أبو ظبي
تتولى تشغيله قبل خلافها مع جيبوتي عام 2018.
والسعودية
تعتبر ذاتها دولة إقليمية لا بد أن يكون لها ثقل واضح في البحر الأحمر، لذلك تسعى جاهدة
للعب دور فاعل في الحوض عاكسة ذلك بتأسيس مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر
وخليج عدن، وهو مجلس أمني اقتصادي قام عام 2020 بما يشمل كافة دول الحوض، لكن ليس بتلك
الفاعلية الملموسة. ولا تستغني الرياض عن التعاون مع واشنطن لتحقيق توازن نفوذ
أمام منافسيها؛ إيران وتركيا والإمارات أيضا، حيث هناك مشاركة سعودية عبر القاعدة
البحرية الأمريكية في البحرين بتسيير دوريات بحرية لتأمين الملاحة في حوض باب
المندب.
وكحال
السعودية، ترى تركيا في ذاتها دولة إقليمية ينبغي أن تتواجد بالقرب من أهم المنافذ
البحرية، وبذلك افتتحت قاعدتها العسكرية في مقديشو بالصومال عام 2017.
وتتواجد
إيران في قاعدتها بالقرب من ميناء عصب في إريتريا، ومن مفارقة القدر، جمعت إريتريا
إيران وخصمها الاحتلال الإسرائيلي فوق أراضيها.
توازن
قوى.. وتوازن تهديدات
المشهد
معقد، فكل لاعب يحث الخطى ويبذل الجهود لنيل حصته من النفوذ المتشتت في حوض البحر
الأحمر، مخافة أن يتراجع دوره ويتقهقر نفوذه لصالح خصومه. إن تهافت عدة دول على
إقامة قواعدها عند نقطة صفر لمضيق باب المندب؛ بلا أدنى شك ينبع من رغبتها في
تثبيت حالتي توازن قوى أو تهديدات.
مع
حلفائها ترمي واشنطن إلى ترسيخ وإدامة صورتها بصفة الشرطي صاحب الكعب الأعلى واليد
الطولى في تأمين حرية الملاحة الدولية، بالإضافة إلى تثبيت صورة الردع ضد القوى
المُهددة، لكن امتلاك القوة المطلقة لا يعني حيازة ردع مطلق أو قدرة جارفة لإخماد فتيل
أي تهديد قبل اشتعاله.
مع حلفائها ترمي واشنطن إلى ترسيخ وإدامة صورتها بصفة الشرطي صاحب الكعب الأعلى واليد الطولى في تأمين حرية الملاحة الدولية، بالإضافة إلى تثبيت صورة الردع ضد القوى المُهددة، لكن امتلاك القوة المطلقة لا يعني حيازة ردع مطلق أو قدرة جارفة لإخماد فتيل أي تهديد قبل اشتعاله
بإيجاز،
توازن القوى يُشير إلى حالة من تكافؤ القوة بين المتخاصمين، في حين توازن
التهديدات يعني قدرة طرف -بغض النظر عن مستوى قوته- على تشكيل مشاغبة تهدد الخصم
وإن لم يكن هناك توازن أو تكافؤ في القوة، فالقدرة على تشكيل هذا التهديد وإدامته
ميزة، وتحقيق ضغط على الطرف المستهدف من التهديد ميزة أخرى. لا يُقدم الطرف القوي
المُهدَد من طرفٍ أقل قوة منه على استهدافه عبر حربٍ ساخنة؛ لأن ذلك يعني دوامة
صراع تُخل بتوازن القوى في عموم المعادلة الدولية، باعتبار أن العنصر الذي يشكل
التهديد استطاع التميز في إطارٍ معين من امتلاك القوة، وبحسبان وجود حلفاء من فئة
الدول الإقليمية والكبرى للفاعل الذي يملك بين ظهرانيه قوة التهديد.
ما
يهم واشنطن؛ تحديدا في ظل إدارة بايدن الحالية، إبقاء حالة الاحتواء والتطويق
قائمة ضد الخصوم؛ روسيا والصين وإيران، نظرا لأن العالم في طور الاتجاه نحو تعدد
القطبية. في حالة تعدد القطبية من الصعوبة بمكان القضاء على القطب المنافس بالقوة
الحربية لأن ذلك مكلف ولم يعد مُجديا في ظل توزع القوى، فواشنطن تملك الكعب العالي
في معادلة العلاقات الدولية وهي القوة البحرية الأكبر عالميا لكنها ليست القوة
البرية الأكبر، وفي حوزة الخصوم قوة اقتصادية وبشرية وعسكرية مواجهتها بالطرق
التقليدية يعني حربا عالمية ثالثة، وفي ظلال ذلك تجترح الولايات المتحدة التحالف
التشاركي لتعزيز استراتيجية الاحتواء والتطويق التي ترسم قواعد اشتباك وخطوطا حمرا
تُنذر الخصوم لعدم تجاوزها. وروسيا الغائبة الحاضرة بمسعاها ليكون لها قاعدة بحرية
في حوض الأحمر إما في السودان أو إريتريا أو جنوب اليمن، ليست بمعزلٍ عن أتون
التنافس هناك.
تعدد
القطبية وسع هامش المناورة لدى القوى الإقليمية التي تراصّت ضد بعضها بعضا في حوض
البحر الأحمر، وباتت هي الأخرى تسعى لتطويق نفوذ خصومها كي تمتلك أوراقا في
التفاوض وتثبيت معادلة تفرض ترجيح التواصل الدبلوماسي على استمرار الخلاف، وفي
سبيل الوصول لهذه المرحلة فإن الشرط الأساسي إحراز قدرة تهديد يمكن أن تصيب
المصالح الجيوسياسية الاستراتيجية للخصم بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة. والقدرة على
التهديد تُلامس من خلال معايير هي: امتلاك جزء من مصادر القوة البشرية والعسكرية
والتكنولوجية، الانتشار الجغرافي على مقربة من نفوذ الخصم، القدرة على مهاجمة
الخصم، وصولا لحمل نية المهاجمة في حال حدث إخلال للمعادلة القائمة من قبل الخصم.
في
ضوء هاتين المعادلتين لتوازن القوى والتهديدات ومعاييريهما، يُلاحظ أن الصين
بانتشارها في جيبوتي وتنزانيا وتشغيلها لعدد من موانئ دول البحر الأحمر، وباعتبار
وجود تكافؤ نسبي لقوتها مقارنة بالحلف الغربي، بالإضافة إلى تحالفها مع روسيا في
بعض المواضع، تشكُل توازن قوى أمام الحلف الغربي. في المقابل، أسست إيران بدعمها
المديد للحوثيين توازن تهديدات للاحتلال الإسرائيلي والإمارات والسعودية. ووفق
معادلة توازن التهديدات أيضا، تقف تركيا بنفوذها في الصومال أمام النفوذين
الإماراتي والسعودي. وهذه هي أبرز المعادلات الحاكمة لحوض البحر الأحمر.
تراعي
الدول الفاعلة في حوض البحر الأحمر استراتيجية شفا الهاوية كيلا تقع حرب ساخنة تؤدي
إلى انهيار توازن القوى والتهديدات، وهذا ما لا تُريده أي دولة فاعلة هناك، لكن هذا
لا يمنع حدوث اشتباكات منخفضة المستوى.