في الأشهر
القليلة الماضية، اتخذت
روسيا قرارات مهمة توحي بأنّ طريق انفصالها عن الغرب،
وتحديدا مع الولايات المتحدة الأمريكية، بات أقرب من أي وقت مضى، في مقابل
اقترابها أكثر فأكثر من دول الشرق الأوسط والعرب والمسلمين.
لروسيا مآخذ
كثيرة، قادتها فيما يبدو إلى هذا التحوّل، ومنها البحث عن شركاء جدد بدل الشركاء
الاقتصاديين الغربيين، الذين خذلوها وخذلوا الشعب الروسي في أعقاب "العملية
العسكرية" في أوكرانيا التي ستنهي عامها الثاني قريبا، خصوصا بعد خروجهم من
الأسواق الروسية، تنفيذا للعقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا، بدافع ممارسة
المزيد من الضغوط على الكرملين.
ومن بين تلك الإجراءات
الروسية المستحدثة؛ القطاع المصرفي الإسلامي، الذي يخدم الاقتصاد الروسي، وتحديدا مصالح
عدد من القوميات الروسية المسلمة، التي لطالما طالبت بخدمات مصرفية تتناسب مع
تعاليم دينها الإسلامي وشريعته.
على مدى العقود
الماضية، زاد عدد المسلمين في روسيا بشكل كبير، فزاد بطبيعة الحال انتشارهم وتوزّعهم
على كامل الخريطة الروسية. يكشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تصريح حديث، أنّ
الدين الإسلامي في روسيا يشهد نهضة غير مسبوقة، ويقول: "قريبا سنكون (روسيا) دولة
أغلب سكانها من المسلمين".
حتى في العاصمة
الروسية موسكو، فإنّ المسلمين في طريقهم إلى أن يكونوا الأكثرية، حيث يمارسون
التجارة والأعمال، ويندمجون ضمن المجتمع المحلي الروسي ويشكلون معهم النسيج
المجتمعي، كما في بقية المدن الروسية الأخرى، والجمهوريات الإسلامية في عموم روسيا.
المسلمون الروس هم
من كبار المستثمرين، ومستعدون للمشاركة في تطوير المشاريع والإسهام في دعم
الاقتصاد الروسي. عدد كبير من هؤلاء لا يستخدمون المصارف، ويحتفظون بأموالهم في الخزائن
الحديدة داخل مؤسساتهم أو في بيوتهم، فيخلقون من خلال ذلك "سوقا رمادية"،
مبتعدين عن التعامل مع المصارف؛ تماشيا مع معتقداتهم الدينية التي تحرّم الربا،
وتحظر اقتراض الأموال بفوائد، مفضلين عدم الانخراض في القطاع المصرفي بأموالهم
وأعمالهم، إلّا بعد إدخال
الخدمات المصرفية الإسلامية، وهو ما قامت به روسيا
بالفعل؛ بدافع زيادة الاستثمارات في الاقتصاد الروسي، وحض كل هؤلاء على الانخراط
في العمل المصرفي؛ باعتباره محفزا للاقتصاد.
ولدخول تلك الخدمات
المصرفية الإسلامية الخدمة، منفعة كبيرة، إذ تسمح بـ:
1- تعزيز
العلاقات التجارية والاقتصادية والاستثمارية مع الدول العربية والإسلامية.
2- جذب
الاستثمارات الأجنبية من الدول العربية والإسلامية، وكذلك من دول جنوب شرق آسيا
المسلمة، خصوصا بعد وضع الأطر التشريعية المناسبة لذلك.
وتبدو دول الشرق
الأوسط وجنوب شرق آسيا، التي تملك سيولة فائضة، أكثر رغبة في استثمار مواردها الكبيرة
في الاقتصاد الروسي، ولهذا تنظر إليها روسيا على أنها "شريك مثاليّ محتمل"،
يحل مكان الاستثمارات الغربية في سنوات المقبلة، بل ربما تتجاوز سابقاتها الغربية
بكثير مع مرور الوقت.
أصبحت روسيا اليوم
أكثر انفتاحا على أفكار الحضارة الشرقية، وعلى ما يبدو، فإنّ موسكو تتطلع بشدّة إلى
المزيد من التعاون. ولهذا، بدأت
البنوك الروسية بالتعامل وفق
الشريعة الإسلامية منذ شهر أيلول/ سبتمبر 2023،
فأطلقت اعتبارا من العام الجديد (2024) خدمات متعددة؛ منها بطاقات الائتمان التي يمكن
أن تُستخدم مثل أي بطاقة ائتمانية، ولكن مع مراعاة الشريعة الإسلامية. تلك البطاقة
مربوطة بحساب مصرفي، يُطلق عليه اسم "حساب أمان"، وهو عبارة عن حساب
توفير يضع فيه العميل أمواله من دون خوف أو ريبة، ولا يحصل من خلالها على أرباح أو
أموال ربوية.
أمّا الخدمات
الأخرى فمتعددة، ومنها "قرض المرابحة"، وهو عملية تجارية إسلامية 100 في
المئة، تُعتمد وفق الشريعة في التعامل، من دون تسجيل أي فائدة تراكمية على العميل،
وهو يشبه "الشراكة" بين المصرف والعميل إلى حدّ كبير.
مؤخرا، بدأت المصارف
الروسية بالعمل فعلا وفق هذا النهج الجديد، في أربع جمهوريات روسية، هي داغستان والشيشان
وبشكيريا وتتارستان. وستكون الفترة المقبلة بمنزلة "فترة سماح" ربما تصل
إلى سنتين، ليصار من بعدها إلى تقييم الوضع المصرفي الجديد. وإذا كانت التجربة
ناجحة، وهذا ما يتوقعه أغلب الخبراء الاقتصاديين الروس، فإنّها ستُعمّم لتشمل الأراضي
الروسية كلّها بشكل اختياري، وسيصبح التعامل وفق الشريعة الإسلامية في كبرى
المصارف الروسية أمرا ممكنا لمن يريد.
تثبت روسيا مرة
جديدة، أنّ ثمة بدائل وحلولا عن كل ما هو غربيّ، بل تثبت مرة جديدة أنّها قادرة على
اتخاذ خطوات تدفعها قدما صوب العالم الشرقي أو الإسلامي بكل مشاربه، إن كان عربيا
أو أعجميا، فذلك ليس مستحيلا.