أنتقل هذه الأيام كأغلب الناس من قناة
تلفزيونية إلى أخرى ويدي على زر (الريموت) تكاد ترتعش من هول الأحداث المحيطة بنا:
إبادة جماعية لشعب أعزل وأطفال أبرياء على المباشر ومشاهد مقاومة مشروعة يقوم بها
شباب آمنوا بربهم انطلقوا للفعل لا لرد الفعل كما كان حال القيادات
الفلسطينية
طيلة العقود الماضية ثم تحركات دبلوماسية وسياسية تملأ الشاشات إما للتبرير وإما
للتحرير وإما للتنوير.
وذكرتني الأحداث بهذه الحكمة التي قالها
العلامة عبد الرحمن بن خلدون منذ خمسة قرون وهو ينعت ممارسات الأمم وحكامها بالقول:
إنه إذا ساء التقدير وفسد التفكير ساء التدبير، أي أن بعض الشعوب تخطئ تقدير
حالتها وتلغي ملكة التفكير فيها يكون مصيرها سوء التدبير.
فانظر حولك أيها القارئ الكريم ترى الشرق
الأوسط يتخبط في معضلات رهيبة كللتها هذا الأسبوع عمليات الإبادة الجماعية التي
تستمر بلا هوادة رغم تزامنها مع انعقاد محكمة العدل الدولية لمحاكمة مرتكبيها، وجريمة اغتيال قيادات من الصف الحماسي الأول في بيروت الجنوبية وجرائم اغتيال
الصحفيين في فلسطين وقصف عائلاتهم بالصواريخ، حتى تحول البطل وائل الدحدوح إلى
أيقونة جهاد وصبر واحتساب دون أن توقع الدولة العبرية المارقة عن القانون الدولي
جريمتها أو تعلن تبنيها، وهي عملية خبيثة هدفها السياسي مبرمج مسبقاً تتسابق فيه
حكومة نتنياهو مع الأحداث قبل أن يغادر حليفها الأكبر البيت الأبيض بأيام قليلة
فيكون حسابها كالآتي: بلوغ مرحلة التطبيع مع المملكة السعودية وطبعا تحويل العداء
التاريخي من إسرائيل المحتلة للأرض إلى الجمهورية الإيرانية، وتكتشف إيران أن
مجتمعها مخترق من قبل الموساد على ضوء الانفجارات التي هزت بعض مواقعها
الاستراتيجية الشهر الماضي، وهو المجتمع الذي حصنه حكامه منذ 1979 بالحرس الثوري.
لكن لعبة المخابرات الإقليمية والدولية لا
تعترف بالحدود، ويمكن لها أن تضرب رأساً القمم العلمية والمواقع العسكرية في لحظة
غفلة بينما الواقع يقتضي المزيد من الحيطة والحذر، والعالم شاهد وسمع كيف أشار نفس
رئيس حكومة إسرائيل إلى محسن فخري زاده بالاسم والصفة عام 2018 ووضعته مخابراتها
على رأس قائمة المستهدفين كما استهدفت زملاء له من قبل بطرق مختلفة!
وبعد سنوات ذكر المجاهد صالح العاروري ثم
اغتالوه وذكر يحيى السنوار وندعو الله له النجاة ومواصلة المقاومة.
هذا المخطط المبرمج إسرائيلياً مع حليفها
القوي المؤقت هو جر إيران إلى رد الفعل بسرعة ربما بضرب جنود أمريكان في البحر
الأحمر وقصف الحوثيين باعتبارهم جنود إيران وفي العراق قبل أن ينسحب الجيش
الأمريكي كما تطالب الحكومة العراقية فتكون الولايات المتحدة مضطرة للحرب وقصف
منشآت نووية إيرانية وتنتهي أخطر مرحلة من مراحل وضع اليد الإسرائيلية على كامل
مقدرات الشرق الأوسط بعد تطبيع أنظمة عربية معها وفتح أبواب التعاون ثم التحالف
معها على أسس جديدة تلغي قضايا العرب وتصفي نهائياً قضية فلسطين بما يسمى صفقة
القرن قبل أن يدخل الرئيس المنتخب (جو بايدن) أو (ترامب) أو من ينوبهما من حزبيهما
المكتب البيضاوي ويشرع في ما أعلنته الإدارة الأمريكية من تصفية تركة المقاومة في
جميع المجالات بدءاً من قضية فلسطين وانتهاء بملف النووي الإيراني على أساس
المعاهدة الموقعة عام 2015 والمصادق عليها أممياً ودولياً وهي التي انسحب منها
ترامب معوضاً إياها بفرض عقوبات عشوائية على إيران لم تزد إيران في الحقيقة إلا
حرصاً على متابعة برنامجها النووي السلمي المدني!.
سوء التقدير بالمعنى الخلدوني نجده أيضا في أوروبا وفي فرنسا بالذات التي تشهد نزول الجماهير الفرنسية للشوارع احتجاجاً على المنعرج اليميني المتطرف المبرمج في قانون الأمن الشامل مما ينذر بأخطار قادمة تهدد السلام الأوروبي بقدوم النزعات شبه الفاشية بخطى سريعة إلى دفة الحكم في الاتحاد الأوروبي وهي قضايا تهم العرب وتنعكس بالضرورة على البحر الأبيض المتوسط بحيرتنا المشتركة الخالدة.
وحين تعلن طهران أنها سترد على الجريمة
بطريقة ذكية فهي تعني أنها تفطنت إلى المخطط الجهنمي المعد لها كفخ تاريخي قادر
على تغيير كل قواعد اللعبة الدولية تماما وبأقل التكاليف ثم إن الأوضاع
الإستراتيجية للدول الشرق أوسطية اليوم تنذر بإمكانية تطبيق المخطط فانظر إلى
عقيدة بعض الأنظمة العربية التي تغيرت من اعتبار العدو التاريخي هو
الاحتلال
الإسرائيلي إلى اعتبار إيران هي العدو!
بينما وراءنا احتلال أجزاء من مصر منذ
العدوان الثلاثي 1956 عليها ثم احتل العدو الإسرائيلي سيناء وضفة قناة السويس وكاد
بعد عبور رمضان عام 1973 أن يحتل نصف مصر فيما يسمى الكيلومتر 101 مهدداً
بالاستيلاء على القاهرة بقيادة (أريال شارون) لو لم توافق مصر يومئذ على قرار وقف
إطلاق النار!
إنه التاريخ القريب ولم تنفرج أزمة مصر
وأراضيها المحتلة إلا بانعراج محمد أنور السادات رحمة الله عليه نحو المخطط
الأمريكي وزيارة الكنيست وعرض السلام على إسرائيل في كامب ديفيد! وبدأت عمليات
السلام المغشوش بين الدولة العبرية وما تبقى من منظمة التحرير بمفاوضات أوسلو ثم
مدريد واعترف الفلسطينيون بدولة إسرائيل مقابل لا شيء أو ما يقارب اللاشيء فالتجأ
أبو عمار وصحبه إلى (حي المقاطعة برام الله) قبل أن يهدمه (تساحال) على رؤوسهم ثم
يغتالون ياسر عرفات بالبولونيوم ويبدأ مخطط انكفاء الوجود الفلسطيني تدريجياً
ببرامج توسيع المستوطنات وبناء الجدار العازل وقبول هدية ترامب إلى إسرائيل (بيت
المقدس) كعاصمة أبدية وغير قابلة للتقسيم ولا للتفاوض لدولة يهودية كما خطط لها
عام 1897 تيودور هرتزل في مؤتمر (بازل) بسويسرا في كتابه (الدولة اليهودية).
وهكذا فإن سوء التقدير بالمعنى الخلدوني
نجده أيضا في أوروبا وفي فرنسا بالذات التي تشهد نزول الجماهير الفرنسية للشوارع
احتجاجاً على المنعرج اليميني المتطرف المبرمج في قانون الأمن الشامل مما ينذر
بأخطار قادمة تهدد السلام الأوروبي بقدوم النزعات شبه الفاشية بخطى سريعة إلى دفة
الحكم في الاتحاد الأوروبي وهي قضايا تهم العرب وتنعكس بالضرورة على البحر الأبيض
المتوسط بحيرتنا المشتركة الخالدة.
اليوم نقف على صدق الحكمة الخلدونية وهو
الرائد في تفكيك المجتمعات الإنسانية واستخلص في كتابه الذي سماه بالعبر (جمع
عبرة) كل ما يمكن الناس من إصلاح الرعية بدءا من إصلاح الراعي وقد صنف رحمه الله
ملكة حسن التقدير على رأس حسن التدبير ولم يكن يعلم وهو في عصره المضطرب أن
الاضطراب سيستمر حتى القرن الحادي والعشرين وأن نفس سوء التقدير في عصرنا ما هو
سوى إعادة تاريخية لسوء تقدير الدولة العباسية التي قضى عليها التتار بقيادة
هولاكو وأذن ذلك الحدث الجلل بدخول المسلمين في نفق الفرقة والتخلف ففقدوا
الأندلس كما نكاد نفقد فلسطين لا قدر الله لولا فتية أمنوا بربهم ورفعوا لواء
الإسلام والمقاومة.